(وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ)
بغض النظر عن السفسطة الغزلية لأيام الزمن الجميل إلّا أنَّه وبالعودة إلى الوراء نلاحظ أنّها النهايات المؤسفة لأنقى الأيام وأصفاها, إذ الحس الأخلاقي المهذّب الذي ينفذ إلى المعنويات بما يشبه الاختراق, فتكون الهيبة, فيتزيّن كبارنا بوقارهم, ويتمتع شبابنا بالفطرة الصحية السليمة مع مسحة من المزاح رائقة تضفي نغمة جديدة على الحياة عبق الماضي والذكريات, وحين المساء يحتضن الليل سماء المدينة وتحتضن البيوت أفرادها فتوصد الأبواب وتوقد القناديل, إنّها الجلسة الشتائية المميّزة حيث المدفأة المحببة إلى القلب التي شهدت كلّ الحكايا والضحكات, تُرى أين ذهبت تلك الأيام؟! يُقال إنّ التاريخ لا يعيد نفسه لكن الإنسان يكرر حماقاته وأخطاءه, عادة ما تُقال للوقائع التاريخية تلك التي سببت الحرب في كلّ مرةٍ مثلاً, ولكن ما دام الإنسان قادراً على تكرار الحرب فهو كذلك عندما يريد السلام. ففي كتاب سلوك وأخلاق الإسلام للكاتب مرتضى مطهّري يذكر حقيقة مفادها أنّ: التكنولوجيا تنمو يوماً بعد يوم بينما الإنسان يضعف تدريجياً مثل دودة القز والشرنقة, فالإنسان يصنع شرنقته لكي يختنق فيها.(1) إنّ الإنسان العصري ليس نفسه إنسان الزمن الجميل, فهو اليوم أكثر إدراكاً وسعة (من الناحية العلمية), يتناغم مع الكون بهرمون مختلف, وعلى الرغم من إيجابياته المتعددة إلّا أنَّه فقد الكثير من الخصائص الحسيّة المنعشة, فكلُّ شيءٍ أصبح عملياً جامداً حتّى أنّ أغلب العلاقات الإنسانية تميل إلى موازنة الأخذ على حسب العطاء ولا شيء أكثر. كذلك العلاقات الغريزية الأكثر مودّة ورحمة سرعان ما بدأت تجف وتتفكك, وهكذا نشأت عقد جديدة تُسمى بـ (أمراض التحضّر), إنّها الاختلالات النفسية والعصبية التي آلت إليها حياة الإنسان, والكاتب نفسه يُشير في كتابه لمقولة توينبي المؤرِّخ العالمي وعالم الاجتماع الكبير, ولأنّها مطوّلة نسيباً فسأختصر معناها بمفرداتي: (إنّ الإنسان غادر من جنّته الأولى لارتكابه الخطأ الأول وهو الأكل من تلك الشجرة, فطُرد إلى الأرض وهي «الجنة الثانية» أمّا الآن فإنَّ خطأه الثاني هو التكنولوجيا؛ فهو الذي اخترعها لكنها استعبدته). ونحن نتّفق أنّ التكنولوجيا علم والعلم وسيلة في طريق الإنسان تُساعده على بلوغ الهدف, لكنما التمادي هو نقطة الخلاف وذلك حين يتمادى الإنسان بثورته الصناعية أو بافتتانه للحداثة فيتجاوز على أثاث الطبيعة بفخامة آلاته. إنّ الإنسان اليوم يفتقر إلى الاطمئنان بعد أن تلاشى الدفء العاطفي لديه حتى أنّ في الأسرة الواحدة هناك مسافات شاسعة من الغربة, أنْ توفّر لأسرتك ما تحتاجه من ماديات فهذا لا يكفي ولن يكفي يوماً, في زمن التقنية, فإنّ العطاء المثمر والحقيقي هو كلمة حب, أن تعطي ذا القربى حقّه وأن تعي ضرورة حق المرء في (كلمة) يقتات عليها شعوره الإنساني المضطرب فيسكن بارتياح ثم يتّزن, إنها بهجة أخرى كالنهار. .................... (1) سلوك وأخلاق الإسلام: ص129.