شُبهَةُ حُرمَةِ البِنَاءِ عَلَى القُبُور
لفهم الدين الإسلامي بشكل مغلوط وطرح الشبهات بشأن بعض شعائره أثرٌ كبير، ولا نبالغ إن قلنا خطير؛ وذلك لأنه لا يقتصر على تشويه الفكر الإسلامي وحسب، بل يتعدّاه إلى أرض الواقع، فيُريق الدماء المُكرّمة، ويستهين بالمقدّسات المسلَّمة، وينتهك الأعراض المحترمة، ويُبيح الأموال المحرَمة، ويعيث في الأرض فساداً وإفساداً. ومن أهم تلك الشبهات شبهة حُرمة البناء على القبور والإفتاء بوجوب هدمه، فقد ورد عن الشيخ عبد الله بن بليهد قاضي قضاة الوهابيّين في الحجاز قوله: أمّا البناء على القبور فهو ممنوع إجماعاً؛ لصحّة الأحاديث الواردة في منعه، وبهذا أفتى كثير من العلماء بوجوب هدمه، مستندين بذلك على حديث عليّ (عليه السلام) أنّه قال لأبي الهيّاج: «ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله (صل الله عليه وآله)؟! أن لا تدع تمثالاً إلّا طمسته، ولا قبراً مُشرِفاً إلّا سوّيته»(1)(2)، وقد أنتج جهلهم ثماره العفنة المتمثلة بتفجير بعض القباب المقدّسة كقباب أئمة البقيع والعسكريين (عليه السلام). ومن الملاحظ أنّ ابن بليهد لم يُفتِ بمنع البناء على القبور وحسب، بل ادّعى إجماع الأمة الإسلامية عليه، على حين أننا لو رجعنا إلى حكم البناء على القبور في المذاهب الأخرى نجد أنه ذهب (الْمَالِكِيَّة، وَالشَّافِعِيَّة، وَالْحَنَابِلَة إلَى كَرَاهَةِ الْبِنَاءِ عَلَى الْقَبْرِ فِي الْجُمْلَةِ، لِحَدِيثِ جَابِرٍ: نَهَى رَسُول اللهِ (صل الله عليه وآله) أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ» وَسَوَاءٌ فِي الْبِنَاءِ بِنَاءُ قُبَّةٍ أَمْ بَيْت أَمْ غَيْرُهما. وَقَال الْحَنَفِيَّةُ: يَحْرُمُ لَوْ لِلزِّينَةِ، وَيُكْرَهُ لَوْ لِلإْحْكَامِ بَعْدَ الدَّفْنِ)(3)، وهذا يؤكد إجماع المذاهب الإسلامية على جواز البناء على القبور، ولم يحرِّمه منهم إلّا مذهب الحنفية بقيد (أن يكون مبنياً لغرض التزيين فقط)، فأين الإجماع على المنع المدّعى من قبل الوهابية؟! ثم إنّ الحديث الذي أورده ابن بليهد للاستدلال به على المنع لا ينهض لذلك؛ لعدة وجوه: الأوّل: لاضطرابه متناً وسنداً، ممّا يُسقطه عن الحجية والاعتبار، فهو تارة يُذكر عن أبي الهيّاج أنّه قال: «قال لي عليٌّ» كما في رواية أحمد عن عبد الرحمن(4)، وتارة يذكر عن أبي وائل، أنّ عليّاً قال لأبي الهيّاج(5) فيما رواه عبد الله بن أحمد في (مسند عليّ): «لأَبعثنّك في ما بعثني فيه رسول الله (صل الله عليه وآله)، أنْ أُسوّي كلَّ قبر، وأنْ أطمسَ كلَّ صنم».(6) الثاني: وعلى فرض صحة هذا الحديث، فإنّ القبور التي أمرَ الإمام عليٌّ (عليه السلام) بتسويتها، لم تكن إلّا قبوراً كانت تُتّخذ قِبلةً عند بعض أهل الملل الباطلة، وتقام عليها صور الموتى وتماثيلهم، فيعبدونها من دون الله. وما يؤكد هذا المعنى عبارة: (لا تدع تمثالاً إلّا طمسته)، ومن المعلوم أنه لا تماثيل تُقام عند قبور المسلمين. فضلاً عن ذلك لو كان المقصود بها عموم قبور المسلمين لما ترك الإمام (عليه السلام) قبراً منها مشيّداً، خصوصاً عندما أصبح الحاكم المطلق على بلاد المسلمين، إذ هل يُعقل أنه (عليه السلام) يأمر أبا الهيّاج بالحقّ ولا يفعله؟! الثالث: من المعلوم في اللغة أنّ تسوية الشيء من دون ذِكر القرين المساوي معه، يُقصد به جَعْلُ الشيء متساوياً في نفسه، وعليه فليس المقصود بتسوية القبر في الحديث جعله متساوياً مع الأرض كما يدّعون، بل بمعنى جعله متساوياً في نفسه، ولو كان المراد منه المعنى الذي إليه يذهبون لقال: إلاّ سوّيته مع الأرض. الرابع: جرت سيرة المسلمين على جواز البناء على القبور، وأجلى مصاديق ذلك قبر رسول الله (صل الله عليه وآله) الواقع في مسجده الشريف، والكاشف عن أنّ المسلمين ومنذ زمنه (صل الله عليه وآله) لم يكونوا يرون مانعاً أو محذوراً في البناء على القبور، ولو كان هناك محذور شرعيّ منه لَأَوْصَى (صل الله عليه وآله) بعدم دفنه فيه، أو لما دفنه الإمام علي (عليه السلام) فيه، أو لاعترض عليه الصحابة عند قيامه بذلك. ممّا تقدم يتضح جلياً جواز البناء على القبور شرعاً، وأمّا ما يقوم به الوهابيون من تفجيرٍ للقباب وتهديمٍ للقبور إنما هو عملٌ إرهابيٌ حاقدٌ لا يمتُّ إلى الإسلام بصلة. ......................................... (1) صحيح مسلم: ج2، ص666. (2) جريدة (أُمّ القرى/ العدد 69/ بتاريخ 17 شوال 1344هـ). (3) الموسوعة الفقهية الكويتية: ج32، ص250. (4) مسند أحمد: ج1، ص96. (5) مسند أحمد: ج1، ص129. (6) مسند أحمد ج1ص111وفي ص89: «أبعثك في ما..».