رياض الزهراء العدد 140 أنوار قرآنية
دِقَّةُ الاخْتِيَارِ فِي التَّعبِيرِ القُرآنِي
إنّ القرآن الكريم جاء متحدِّياً العرب؛ لأنه مكون من الحروف والألفاظ نفسها التي استعملوها في التعبير عن المعاني التي تدور بخواطرهم، لكنه كان دقيقاً في اختيار الألفاظ، فلا تحلُّ لفظة مكان أخرى في سياقٍ معيّن، وما ذلك إلّا لأنّ قائله هو الله (سبحانه وتعالى) الذي خلق البشر والكون كلّه، وكانت بلاغة البشر على قدر علمهم بمقتضى حال المخاطب، وعلم البشر بأحوال المخاطبين محدود، أمّا علم الله تعالى بخلقه فلا حدّ له، ومن هنا استمد القرآن بلاغته. فثمة فرقٌ في الاستعمال القرآني بين (تَنَزَّل) و(تَتَنَزَّل)، (تَوَفَّاهم) و(تَتَوَفّاهم)، (يَذَّكَّرون) و(يَتَذَكَّرون)، (اطّيرنا) و(تَطَيَّرنا)، وغيرها، وسنحاول إلقاء الضوء على مفردة من هذه المفردات والمعنى الدقيق الذي تؤديه في سياقها، وكيف يختلف المعنى بتغيُّر موضعها. قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ)(1)، وقوله تعالى: (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ)(2)، فهناك فرقٌ في استخدام الفعل (يتضرّع) في الآيتين فنلاحظ أنه قال في الآية الأولى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ)، وقال في الآية الثانية: (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ)، فالأمم أكثر من القرية بكثير، وهذا يعني تطاول الإرسال وتكراره على مدار التاريخ، فلما طال الحدث واستمرّ جاء التعبير القرآني بما هو أطول بناءً، فقال (يتضرّعون) بوجود التاء، ولما كان الإرسال في الآية الثانية إلى قرية جاء التعبير أقصر (يضّرعون) بالإدغام منسجماً مع الحدث.(3) وثمة فرقٌ آخر بين التعبيرين، قال: (أرسلنا إلى أمم) و(أرسلنا في قرية)، فالإرسال إلى شخص ما يقتضي التبليغ ولا يقتضي المكث (البقاء)، فإن المُرسَل يبلّغ الرسالة ويعود، أمّا الإرسال في القرية أو المدينة يقتضي التبليغ والمكث، لأنّ (في) تفيد الظرفية، وهذا يعني بقاء النبيّ بينهم يبلّغهم ويذكّرهم بالله ويريهم آياته المُؤيدة، ولا شك أنّ هذا يدعوهم إلى زيادة التضرُّع والمبالغة فيه، فجاء بالصيغة الدالة على المبالغة في الحدث والإكثار منه، فقال:( لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ)، الدالة على الرجاء وجاءت مشددة (مضعّفة) زيادة في المبالغة، فوضِعَت كلّ مفردة في مكانها المناسب الذي ينطبق على المعنى تمام الانطباق. وهذا يدلّ على أنّ للكلمةِ في القرآن الكريم قيمةً عظيمةً وأهميةً كبيرة، فهي الأصل الذي يدور عليه المعنى، فالمفردة القرآنية فيها روح أو هالة من النور الذي يسري في التعبير، وينفذ إلى القلوب، ويوصل المعنى بأيسر جهد وأقل عدد من الحروف، ويُعدُّ اختيار المفردات في القرآن الكريم من أسرار إعجازه، ومن عجائبه التي لا تنفد؛ لذلك تجد كلَّ كلمة في القرآن لا يصلح غيرها في مكانها، ولو أُدير لسان العرب على كلمة غيرها لتؤدي معناها في مكانها، لم توجد؛ لأنّ معناها في هذا الموضع الذي وضعت فيه أمر يقتضيه السياق والحال. وهذا ما أقرّه الدارسون قديماً وحديثاً فـ (إنّ للكلمات أرواحاً، فإذا استطعتَ أن تجد الكلمة التي لا غِنى عنها، ولا عِوض منها، ثم وضعتَها في الموضع الذي أُعدّ لها، وهُندس عليها، ونفخت فيها الروح التي تعيد لها الحياة، وترسل عليها الضوء، ضمنت الدقة والقوة، والصدق والطبيعة والوضوح، وأمنت الترادف والتقريب والاعتساف).(4) ........................................ (1) (الأنعام:42). (2) (الأعراف:94). (3) ينظر: بلاغة الكلمة في التعبير القرآني، فاضل السامرائي، شركة العاتك لصناعة الكتاب، القاهرة، ط2، 2006: 39. (4) دفاع عن البلاغة، أحمد حسن الزيات، دار نهضة مصر، ط1، 1967: 15.