رياض الزهراء العدد 141 الحشد المقدس
ابتِسَامَةُ الرِّضَا
هناك في شمال العراق، بينما الفضاء مفعم بعبق تسبيح المجاهدين، والأرض تكاد تئّنّ من وطأة الإرهاب. أُنيطت بـ (عليّ) مهمة تطهير الأرض من المتفجرات للتقدّم.. لم يكن يبالي بخطورة عمله، يتقدّم دون الآخرين، يفكّك العبوة تلو الأخرى، يعمل بصمت وذكاء, وقلبه يلهج بالدعاء. اشتّد وهج الشمس في تلك الرمضاء، واصطبغ شعره الأسود بغبرة الصحراء، أزاح خصلات منه جانباً؛ ليُحكم ربط شريط أحمر على جبينه، خُطّ عليه (لبيك يا حسين). ألقى ببصره على خارطةٍ للمنطقة، فازدادت ابتسامته ألقاً، إذ إنها العبوة الأخيرة، تمتم بكلمات سجّلتها ملائكة الرحمن، وما هي إلّا لحظات حتى رفع رأسه مبتسماً رافعاً بإصبعيه شارة النصر لمَن خلفه، ليتقدّم من بعده المجاهدون؛ كي ينقضّوا على عدوٍ اتخذ من الجحور مخبأً له.. وصل إليه فريق الإعلام الحربي, بادره المراسل متسائلاً: - أخبرنا عن سرّ انتصاراتكم؟ - أجابهم مبتسماً مشيراً إلى جبينه: لبيك يا حسين.. فبها نتقدّم، وبلبيك يا زينب ننهي إجرام المتفجرات.. وأضاف بثقة عالية: أوصي الجميع بأن يتمسّكوا بالمرجعية الدينية؛ فهي مَن تأخذ بنا إلى برّ الأمان، عليكم بمرجعكم الأعلى فقائدنا سماحة آية الله العظمى السيّد عليّ الحسيني السيستاني (دام ظلّه الوارف) كـ (مسلم بن عقيل (عليه السلام))، يأخذ البيعة لنصرة الحسين (عليه السلام). عَلِمَ (عليّ) أن اشتياق أمّه يؤلمها، فأراد أن يوصل إليها رسالته، ليثبت لها أنها معه في كلّ لحظات عمره، فأرسل إليها كلماته عِبْر عدسة الكاميرا. (أمّي جُزيتِ خيراً عمّا قدّمتِ، رضاكِ يا أمّي فمالي في الدنيا سواه، لا تخافي ولا تحزني وقرّي عيناً، فنحن سلكنا طريق الولاية، وهو امتداد لثورة الطف). أنهى حديثه، ليترك أمّه في شوق الانتظار، أمّه الّتي طالما تمنّت أن تزفّه إلى عروسه وتحتضن أطفاله، كم تمنّت لو أنّه يوماً ما يُثقل عليها بطلباته، يأمرها أن تعدّ له ما يشتهيه من الطعام أو تُحضّر له ما يريد ارتداءه من الملابس، فهكذا تسمع من الأمهات سواها كثرة طلبات أبنائهنّ، إلّا (عليّ).. ولدها (عليّ) يأبى أن يكلّف غيره بأيّ عملٍ كان، يسعى هو إلى خدمة أمّه، لا لأن تخدمه أمّه.. تمنت لو كان عاقّاً بها، لكان فراقه أهون عليها، مرّت أيام شعبان سِراعاً، وها هي أيام الإجازة الصيفيّة قد أطلّت على الأطفال، وهم في شوق إلى معلّمهم (عليّ) وهو يتلو على مسامعهم آيات السور القصار ويعلّمهم معناها، في حلقات دائرية، تحفّها الملائكة، تنتشر في أروقة مسجد الحيّ في بغداد تماماً كما في كلّ عام، أمّا عليّ فما زال في تلك القرية في جبال سنجار شمال العراق، ارتفع صوت أحد المجاهدين متهجداً بفصول أذان فجر السادس من شهر رمضان، بعد أن أتمّ صلاته بدأ يتهيأ (عليّ) لواجبه، ربط الشريط الأحمر المخطوط بـ (لبيك يا حسين) على عضده. حمّل أدواته الهندسيّة وبدأ بالعبوات لتفكيكها، تلوّن الفضاء بألوان الخراب حين دوّى انفجار أحدها.. في تلك اللحظات ارتقى عليّ شهيداً إذ تمنّى, بعد أن قدّم دروسه في التواضع، والرفعة، والسمو بالنفس.. انتصر على عدوّه تماماً كما انتصر في ميدان تحرير النفوس والارتقاء بها، نال ما ابتغاه من ربّه بعد أن جاهد لإرضائه، ابتسامة الرضا تلك لم تفارق مُحيّاه حتّى حين تلقّى جسده شظايا العبوات المنفجرة.. ليترك أمّه في شوق لا ينقطع.