دَورُ الخُبزِ فِي العِبَادَة (حَياةُ السيّدةِ الزّهراءِ (عليها السلام) أُنموذجاً)
لما كانت للخلقة غاية وهي العبادة، فإنَّه مِن الطبيعي أن تكون هناك أمور ملازمة لها كالهداية، وأمور مساعدة على البعث إليها كالغذاء, ولم يترك الشارع هذا الجانب دون تناوله في كتابه وسنن أنبيائه. فالعبادة أولاها الشارع أهميّة بالغة ووضع لها منهاجاً متكاملاً في مراحله وفصوله لتحقيق التكامل الإنساني، ليتحصّل للنفس النقاء، واستشفاف حقيقة الوجود، والتعالي على زخارف الدنيا الزائلة، والتعلّق بعالم النعيم الأبدي. ولطالما كان الأنبياء وعلى رأسهم نبيّ الرحمة (صل الله عليه وآله) وعترته (عليهم السلام) هم خيرة عباد الله (عزّ وجل) المبعوثين هداةً للعالمين، والأنموذج الحيّ الذي ينبغي للمسلمين الاقتداء بسنّتهم. فلو نظرنا إلى حياة القدوة المعصومة الزّهراء (عليها السلام) لوجدنا أنّ زمنها فيه شدّة وإقتار, وكانت تؤثر المسلمين على نفسها، فرغبت وأسرتها أن يكونوا بمستوى أقلّ الرعيّة؛ لذا نجدهم يكتفون بأقلّ ما يسدّ حاجتهم من ملبس ومأكل, تاركين الشهوات وراء ظهورهم, قد آنسوا برضا الله (سبحانه وتعالى) واتخذوا مناجاته بدلاً, هم بين الناس بدناً ومع الله روحاً, سعوا سعيهم إلى كلّ ما يقرّبهم للعبادة من التماس صحّة وترك بطنه وغيرها, كما رُوي عن أهل بيت العصمة (عليهم السلام)، أنه قال (صل الله عليه وآله): «إياكم والبطنة، فإنها مفسدة للبدن، ومورثة للسقم، ومكسلة عن العبادة»(1)، وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ترك الشهوات أفضل عبادة..».(2) ومن الشواهد القرآنية على تقويتهم لأنفسهم للعبادة ببسيط الطعام وقليله أنَّ سورة الإنسان عندما نزلت فيهم كان ذلك بعد تصدّقهم بأرغفةِ الخبزِ المخصّصة لإفطارِهم لثلاثة أيام. ففي دارِهم كان خبز الشعير والماء والتمر واللبن والخل والملح هي مفردات غذائهم الأساسيّة, وعلى الرغم من رغبتهم عن لذيذ المأكل إلّا أنّهم عُرِفوا بحدّة في الأذهان، وبصيرة ثاقبة، وقوّة في الأجسام والأرواح، ولو خلّي بينهم وبين الحياة لشهدنا لهم طولاً في الأعمار. وهكذا فإنّ اختيار الزهراء (عليها السلام) هذه المأكولات لتضعها على مائدتها المباركة ليس زهداً فحسب، بل هو خيار قائم على علم ودراية وحكمة، فهي سليلة البيت النبوي, فالروايات والعلم يؤيدان ويباركان خياراتها، فهي أغذية تُعين على طلب رزق الدنيا، وعلى العبادة لرزق الآخرة, متوازنة بها خصائص تجعل تناولها أفضل من تناول المأكولات الفاخرة. فلو أخذنا من مائدتها (عليها السلام) خبز الشعير كمثال لوجدنا أنّ قوامه يحتوي بشكل عام على مواد غذائية لا نظير لها، فهو يبني الجسم, وغنيّ بالبركة, نوراني لقلب المؤمن خاصة؛ لذا له دور فعّال في التوجّه للعبادة، وله فوائد صحيّة لا تُحصى أثبتتها الدراسات العلمية؛ فهو ما دخل في جوف إلّا أخرج منه الداء؛ لذا سُميّ بطعام الأنبياء، فلا يوجد نبيّ لم يأكله, فعن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إنما بُنِي الجسد على الخبز»(3) وقد أمرنا بإكرامه بعدم تقطيعه وشمّه ووطئه, وإذا حضر لا يُنتظر به غيره, فقد عُمل فيه ما بين العرش والأرض وما بينهما، وهو من بركات السماء والأرض. خلاصة القول: إنَّ المعصومين لم يكونوا مبلّغين للتشريعات فحسب، بل قادةً هداةً صبّوا اهتمامهم بأبدان المسلمين وأرواحهم وأديانهم، فحريّ بالمؤمن أن يكون متبركاً مقتدياً ومستنيراً بهم في سيره نحو الله (عزّ وجل)، مستفيداً من نعم الله تعالى، وحاصداً للبركات الماديّة والمعنويّة، صانعاً منها سلّماً لعروجه. .................................. (1) ميزان الحكمة: ج1، ص89. (2) ميزان الحكمة: ج4، ص3485. (3) الوافي: ج19، ص271.