رياض الزهراء العدد 141 رفيف الجناح
(وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا)
مضت أيام من الترقب, العدو يتربص بالمدينة الدوائر، وقد احتشد في وادي ذات السلاسل, وأخذ يعدّ العدّة ويتجهّز, والمسلمون يتجهزون, ولكن الهزيمة أضعفت عزائم جلّهم, إلّا مَن كان له من إيمانه جُنّة، ومن يقينه درع يقيه شرّ اليأس والقنوط, كانوا ينظرون إلى وجه النبيّ (صل الله عليه وآله) إذا حزن فيحزنون, ولكنّهم كانوا يرون في بريق عينيه ما تبرق له أسرّتهم فيطمئنّون، وأدركوا كما أدرك مَن هم دونهم ووراءهم, أنّ النبيّ يدّخر سلاحه الأقوى للموقف الأقوى! وتجاوبت أنحاء المسجد في ذلك اليوم المشهود, بالنداء المشهود: «أين عليّ؟!» وأقبل عليّ (عليه السلام), وأقبلت معه قلوب تخفق لخفق نعليه, وأدبرت قلوب لا ترى فيه غير ما قاتلها يوماً عليه. وأمره النبيّ (صل الله عليه وآله) أمراً مبرماً أن: «امضِ إلى الوادي!» فردّ بلا تردّد أن: «نعم», ثمّ مضى إلى منزله يتهيأ, ليعود بعد قليل متعصّباً بعصابته الصفراء المعروفة, الّتي لم يكن يتعصّب بها إلّا حين يبعثه النبيّ (صل الله عليه وآله) في وجهٍ شديد. ثم رفع النبيّ (صل الله عليه وآله) يديه إلى السماء, وهو يدعو بصوت تزلزلت له أركان القلوب: اللهمّ إن كنت تعلم أني رسولك فاحفظني فيه! وتحرّك النسيم يُدغدغ وجنات النخيل, وينسلّ في حذر بين صفوف المؤمنين, يلفّهم بغشاء سحري يقيهم عيون الظالمين, ويخترق الإهاب ليدخل القلوب العابقة بنور اليقين, فيهزّها رعشة تهزّ العضد فيصبح كجلمود, وترهف حركة الساعد فيضحى كعاصفة تتلوّى, كزوبعة تلفّ البيداء, وتضرب بغضبها, فلا تُبقي ولا تذر, وكيف تُبقي, والغضب لله, والضربة لله, والنصر كلّه بيد الله (عزّ وجل). كانت الضربة قاصمة للمشركين, بغتهم بها الإمام عليّ (عليه السلام) من ثغر لم يتوقعوه في زمن لم يتوقعوه, تدرّع بصلاة الفجر وخرج, فكانت صلاته جُنّة, لا له وحده, بل للمؤمنين جميعاً. وأتى البشير يزفّ الخبر إلى رسول الله (صل الله عليه وآله), وما كان البشير سوى جبريل, ..فإنّ الرسول قد قام من رؤيا له منتفضاً, فلما سألته أم المؤمنين أم سلمة عمّا رأى, أعلمها أنّ علياً قادم منتصراً بعون الله تعالى, وأن الله (عزّ وجل) أنزل عليه سورةً بحقّه. لقد أمر الرسول بالخروج لاستقبال البطل المنتصِر, فخرجت المدينة في ركاب الرسول, وقف الناس صفّين كما يوم الحشر, وكان الإمام عليّ (عليه السلام) في المقدّمة, حتى إذا وصل ترجّل عن فرسه وخطى صوب الرسول (صل الله عليه وآله), فأقبل عليه النبيّ مبتهجاً يقول له: اركب يا عليّ, فإنّ الله ورسوله عنك راضيان. فبكى الإمام، بكى فرحاً بالبشرى برضا الله ورسوله، لقد كانت كلمات الرسول (صل الله عليه وآله) أفرح لقلبه من النصر نفسه، لقد كانت هي النصر بعينه. وتوالت الآيات على لسان النبيّ (صل الله عليه وآله), تلاها على مسامع أصحابه ليدوّنوها على صفحات قلوبهم قبل صفحات التاريخ. بسم الله الرحمن الرحيم: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا * إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ)/ (العاديات:1-11).