رياض الزهراء العدد 140 لحياة أفضل
هَل التَّمدُّنُ يُقَلِّل الالتِزَامَ الدِّينِيّ والأَخْلَاقِيّ؟
التمدّن مصطلح نشأ مع تطور الحياة من الرُقي والحضارة والعمران، ثم تبع ذلك التحديث المستمر لأساليب المعيشة المعاصرة المدنية التي نتجت عن مجموعة من الإنجازات البشرية التي اخترعها الإنسان المدني وطورها، وهي تعدّ جزء الحضارة المادي الذي يقابله الجزء الفكري والروحي. بعد رسم صورة عن معنى التمدّن نتحدث عن واقع مجتمعاتنا العربية، وطبيعة تمدّنها الحالي، وانفتاحها على الحرية والديمقراطية المستحدثة الآتية من الغرب، على الرغم من أنها كانت هي صاحبة التمدّن قبل ما يقارب الألف عام وذلك على لسان (غوستاف لوبون) الذي أقرّ بفضل الإسلام ودور العرب في نشأة التمدّن إذ قال: (إنّ حضارة العرب المسلمين قد أدخلت الأمم الأوربية الوحشية في عالم الإنسانية، فلقد كان العرب أساتذتنا.. وإنّ جامعات الغرب لم تعرف مورداً علمياً سوى مؤلّفات العرب، فهم الذين مدّنوا أوروبا مادةً وعقلاً وأخلاقاً، والتاريخ لا يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه، إنّ أوروبا مَدينة للعرب بحضارتها، وإنّ العرب هم أول مَن علّم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين، فهم الذين علّموا الشعوب النصرانية، وإن شئت فقل: حاولوا أن يعلموها التسامح الذي هو أثمن صفات الإنسان، ولقد كانت أخلاق المسلمين في أدوار الإسلام الأولى أرقى كثيراً من أخلاق أمم الأرض قاطبةً). فإذن هذا هو أصل التمدن الغربي الذي شهد به غوستاف لعصور العرب الذهبية، لكن الركود العلمي والعملي في المنطقة العربية بسبب الحروب المتعاقبة وانتشار الأوبئة وغيرها من أسباب التأخر في سباق الدول المتحضّرة جعلها تابعة للتمدّن الغربي ومستوردة أساليب المعيشة الغريبة، وإنّ هذا المشهد المبهر الذي رأته مجتمعاتنا منشأ لسوء فهم خطير في الذهنية العربية والإسلامية سافر معها عِبْر الأجيال حتى يومنا هذا. إنّ كلّ مجتمع يمتلك حضارةً وقيماً خاصة به تميّزه عن الآخر، وقد نجد مجتمعين متشابهين في تكنولوجياتهما، مختلفين في مبادئهما، هذه نقطة مُهمة يغفل الكثير عنها ممّا يؤدي إلى خلط بين الثوابت الدينية والأخلاقية وبين خنق الحريات، وخلط بين الحرية المشروعة والفوضى الأخلاقية، فنلاحظ عدداً غفيراً من المسلمين عندما يتمدّنون ينسلخون من التزامهم الديني والأخلاقي منبهرين بشعارات الحرية المطلقة، ذائبين بالثقافة الغربية بمحاسنها ومعايبها على حدٍّ سواء، لا يتمكنون من الفصل بين ما هو صالح لهم، وما هو مخالف لإنسانيتهم وإسلامهم، وذلك ناتج عن غياب الفهم الصحيح للحرية وكيفية استثمار حالة التحضّر، ممّا جعل التمدّن نقمة تعانيها مجتمعاتنا العربية مؤدية إلى فشل على مختلف الصُّعُد السياسية والاجتماعية والاقتصادية. من جهة أخرى نجد فئة ليست قليلة تمدّنت مع المحافظة على ثوابتها وقيمها، فخرجت بنتائج أقلّ ما يقال عنها إنها نهضت بواقع مجتمعاتنا، وطوّرت إمكانياتها العلمية والصناعية والعسكرية، إذن فالتمدّن يعني اكتساب الحالة الجديدة النافعة والمميّزة مع الاحتفاظ بالذات وقيمتها، لا بيع القيمة الداخلية مقابل تقنية أو ملبس أو طريقة عيش لامعة. وقد نتج عن التمدّن السلبي عدّة مشاكل في الحياة المجتمعية والأسرية، منها من قلّة الالتزام دينياً وأخلاقياً، والتراجع الثقافي، واهتراء الهوية المسلمة، وإصابة الشخصية العربية بأمراض نفسية، وارتفاع معدل الجريمة والابتزاز، وغيرها من نقم الحياة المستحدثة، وإذا ما أردنا أن نمارس أسباب التمدّن من دون أن نتراجع بإنسانيتنا ومبادئنا فلابدّ من نشر الوعي، وضرورة التثقيف المجتمعي، ومعالجة المخالفات بطرق مدروسة سليمة؛ كي نحافظ على نسيج مجتمعاتنا الإسلامية من الانحلال والتفكّك المشؤومين.