رياض الزهراء العدد 140 مناهل ثقافية
الذَّاكِرَةُ الكَسِيرَة
على كرسي هزّاز كان جالساً قرب مدفأته يستجدي الدفء.. كانت النافذة تهتزّ بفعل الرياح، والسماء تقذف بأكوام الثلج، فتصنع منها سجادة للأرض.. ذاكرته كانت تحاول التحليق لكن أجنحتها قد كُسرت.. لم يستطع أن يتذكر شيئاً إلّا اسمها الذي ترعرع في أحضان قلبه.. أين هي؟ لماذا لا تأتي وتجلس قربي على كرسيها الصغير؟ لماذا لا تناولني مشطها لأسرّح شعرها الذهبي؟ وفجأة طُرق الباب بقوة، انتفض من كرسيّه مذعوراً، وهبّ نحو الباب يتساءل: مَن الطارق؟! وإذا برجل غريب لم يستطع أن يعرف هويته، فهمّ بإغلاق الباب ضجراً إلّا أنّ الرجل مدّ يده ليمنع ذلك قائلاً بتعجب: (ما بك يا أخي؟! لماذا تغلق الباب في وجهي؟ لقد جئت لزيارتك من بعيد رغم هذه العواصف، ثم إذا بك تستقبلني هكذا..). يتمتم الرجل العجوز: (ومَن أنت حتى تزورني؟ هيا اذهب!) يتعجب الزائر قائلاً: (أنا أخوك سعيد! لماذا تغيّر تعاملكَ معي..). يغلق الرجل باب بيته غاضباً، ويتمتم في نفسه: (ومنذ متى كان لي أخ حتى؟) يعاود الزائر: طرق الباب بعنف وهو يصيح: (أدخلني أرجوك يا جواد، الجو بارد هنا وأوشك أن أموت من البرد..)، لكن العجوز يتجاهله، وقد جلس على كرسيّه وبيده منديل بلون البنفسج يشمّه من حين إلى آخر.. مرّت ساعة وما زالت طَرَقَات الباب تتكرر، لكنها كانت تضعف شيئاً فشيئاً.. واستيقظ ضمير العجوز وظل يفكر: (كيف لك يا جواد أن تجلس قرب المدفأة وبابك يطرقه رجل يتربّصه الموت من كلّ صوب؟!). نهض من مكانه واقترب من الباب، تردّد في فتحها لكنه فتحها في النهاية ليجد الرجل قد غادر المكان.. أغلق الباب ثم ذهب إلى سريره وما زال المنديل البنفسجي بيده.. لهذا الرجل قصة ألم لم يزرع النسيان بذوره فيها، فمنذ سنوات كانت له حفيدة صغيرة يكنّ لها كلّ الحبّ، خطف الردى والديها، فآلى الجد على نفسه رعايتها.. كان يعتني بها، يحادثها، يروي لها قصصاً قبل أن تغفو في المساء، ويمشّط لها شعرها عند الصباح فيقول لها: (يخال لي يا مريم أنّ الشمس هي التي صاغت لك خصلات شعرك الذهبية..). فتبتسم قائلةً: (ما أظرفك يا جدّي..). كان يأخذها معه أينما ذهب، ولا يجلس على كرسيّه الهزاز إلّا وقد وضع كرسيّها الصغير قربه، كانت أنيسه الوحيد في وحشة دنياه، وقنديله المنير في ظلماتها، وابتسامة الأمل في غمرة أحزانه.. في صباح شتائي والثلوج كانت تنهمر، بخفة أصرت مريم على أن تذهب للعب في الثلج، رفض في البداية لكن عينيها الدامعتين شفعتا في موافقته.. ظلّ يرقبها عِبر النافذة حتى اختفت، ابتسم وقال: (ما أجملك يا ملاكي حينما تجرين بين هذه الثلوج النقية، وما أجمل ابتسامتك حينما تشرق بين شفتيك..!) عند المساء كان الجد قد غلب القلق عليه مغلباً عظيماً، وهو ينادي بارتياع: ((أين مريم؟ لماذا لم تأتِ بعد؟) ثم يلتفت نحو الباب تارةً، ونحو النافذة أخرى.. في الساعة التاسعة والنصف مساءً طُرق الباب، فهبّ لفتحه ليُصدم برؤية رجل يحمل بين ذراعيه ملاكه الصغير تمسك بيدها الصغيرة منديل البنفسج، وقد سلّمت بارئها الروح، ارتبك وطار صوابه، صرخ صرخة أرادت أن تزهق بروحه، وانتفض باكياً: (ماذا حدث؟) أجاب الرجل بحزن: (الحرب..لا أبقى الله لها من حياة، حتى القرى النائية لم تسلم من فواجعها..). أصابت الصدمة ذاكرته فاختفى عنها كلّ حدث في حياته، كلّ إنسان رآه، إلّا أنه لم ينسَ مريم، أنيسه الوحيد، نور بيته القديم، وظلّ يعالج بنفسه طوال سنوات عمره حتى آخر أنفاسه وهو يصرخ: (أبعد الله الحرب.. أبعد الله الحرب..).