ذوا الجَنَاحَيْنِ
كلماتي هذه هي في ذاكرة العناوين الكبيرة من تاريخ الإسلام ووجوده، فالرموز هم الذين شكلّوا محددات الخيال الثقافي والاجتماعي للمسلم، والمطلّع على حال شبابنا ونخوتهم وصولاتهم في الدفاع المقدّس يعلم أنَّ حضور هذه الرموز كان باعثاً ومحفّزاً في الذود عن حرم المقدّسات الإسلامية. وقد أعدَّ الله الجنّة دار الخلد والكرامة للسعداء من عباده المؤمنين، كما أعدَّ النار في يوم القيامة للأشقياء من عباده كما ذكر سبحانه في محكم كتابه: (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ)/ (هود:105) ولي الشرف أن أتفرّد بالكتابة عن شخصية عظيمة من الشهداء والسعداء الذين فازوا بالجنة والخلد في سبيل الله (عزّ وجل)، وبعد هذه المقدّمة أتحدّث عن سيّدنا جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) ابن عم النبيّ محمد (صل الله عليه وآله) وأخ الإمام عليّ (عليهم السلام) وهو أكبر عمراً من الإمام علي (عليه السلام) بعشر سنين، وهو ثالث من أسلم وصلّى مع رسول الله (صل الله عليه وآله)، بعد الإمام عليّ (عليه السلام) وخديجة (عليها السلام)، حيث كان النبيّ (صل الله عليه وآله) يتقدّمهم للصلاة وعليّ (عليه السلام) عن يمينه، وجعفر (عليه السلام) عن يساره، وخديجة من خلفه (عليه السلام)، ويُقال إنّه كان أشبه الناس بالرسولِ محمدٍ خَلقاً وخُلُقاً، إذ كان يقول عنه مع رسول الله (صل الله عليه وآله): «خُلق الناس من أشجار شتّى، وخُلقت أنا وجعفر من شجرة واحدة».(1) ورُوي أنَّ جعفر بن أبي طالب (عليه السلام) كان يقول لأبيه: «يا أبه أني لأستحي أن أطعم طعاماً وجيراني لا يقدرون على مثله، وكان يقول له أبوه: إني لأرجو أن يكون فيك خلف من عبد المطلب».(2) وعن عمران بن حصين قال: (..وذلك أنه مرَّ أبو طالب ومعه ابنه جعفر برسول الله (صل الله عليه وآله) وعليّ عن يمينه، فقال أبو طالب لجعفر: صل جناح ابن عمّك..)(3)، فكانت أول صلاة صلّاها رسول الله (صل الله عليه وآله) في جماعة.(4) كما آزر النبيّ بهجرته إلى الحبشة لنصرة رسول الله (صل الله عليه وآله) ودعا النجاشي إلى الإسلام فأسلم، وكان جعفر (عليه السلام) يوم بدر بأرض الحبشة فضرب له رسول الله (صل الله عليه وآله) بأجره وسهمه، وقد وفد على رسول الله (عزّ وجل) يوم فتح خيبر من أرض الحبشة، فقام إليه النبيّ (صل الله عليه وآله) وقبّله بين عينيه ثم قال: «ما أدري بأيهما أنا أسر: بقدوم جعفر، أو بفتح خيبر».(5) وفي غزوة مؤتة المعركة الحاسمة بين المسلمين والروم على حدود الشام، حيث كان عدد جيش الروم في جمع عظيم والمسلمون في قلّة ثبت جعفر (عليه السلام) حاملاً الراية بيد ويقاتل بالأخرى, فضرب على يده فقطعت، فأخذها باليد الأخرى فضرب عليها فقطعت، فاعتنق الراية وثبت مكانه حتى استشهد، وفي الطف أعادها كرة أخرى بطل العلقمي العباس بن عليّ بن أبي طالب الذي فدى بنفسه من أجل دين النبيّ (صل الله عليه وآله) يوم عاشوراء. ما إن أتى نعيه من مؤتة إلى المدينة حتّى وجد فيما أقبل من جسده تسعون ضربة ما بين طعنة برمح وضربة بسيف وقطعت يداه في الحرب فأعطاه الله جناحين يطير بهما في الجنة، فلقِّب ذا الجناحين.(6) وقال أيضاً (صل الله عليه وآله): «لقد سار في ملءٍ من الملائكة له جناحان خضيبان أبيض القوادم»(7) وحزن عليه حزناً شديداً وكانت شهادة جعفر في غزوة مؤتة في جمادى الأولى (سنة ٨هـ) وهو ابن ثلاثين سنة، فكان إنموذجاً لشباب اليوم في سوح القتال فكم عباسٍ، وكم جعفرٍ وأخي الشهيد مصطفى منهم أمثاله من الشباب يقاتلون ويقتلون دفاعاً عن الوطن ومقدّساته وكانوا فخراً لوطنهم وأولادهم وأجيال المستقبل. .......................................... (1) بحار الأنوار: ج21، ص64. (2) الدرجات الرفيعة: ج1، ص87. (3) بحار الأنوار: ج35، ص121. (4) المناقب والمثالب: ص107. (5) الخصال: ج1، ص85. (6) الكافي: ج2، ص178. (7) المناقب والمثالب: ص107.