رياض الزهراء العدد 140 رفيف الجناح
تَبَاشِيرُ كَربَلاء
نبحت كلاب الحوأب، ووقف أصحاب الفيل يرصّون صفوفهم ليعبدوا العجل، وقد عمَوا عن رؤية الكعبة، ونكثوا بيعة الإمام المبين، فلاحت بين سنامي الجمل الأحمر تباشير كربلاء. كان الناكثون يطوفون بهودج الفتنة، وقد راح القاسطون يصفّقون لهم خلف سجوف السنين في صفّين، بينما استتر المارقون يتحيّنون الفرصة للغدر والختل، منذ التحكيم والنهروان، حتى قيام المنقذ الأمين، وارتفع صوت الإمام بين الصفوف يتلو: -(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)/ (البقرة:214). ثم يقول: -"أفرغ الله علينا وعليكم الصبر، وأعزّ لنا ولكم النصر، وكان لنا ولكم ظهيراً في كلّ أمر". ثم يرفع بيده مصحفاً وينادي برفيع الصوت: -"مَن يأخذ هذا المصحف فيدعوهم إلى ما فيه وله الجنة؟!". وكأني بعيني العباس قد برقتا لتلك الدعوة، كأني بفؤاده قد خفق وتزلزل حتى كاد يتمزّق، وكأني بأنفاسه تتلاحق وقد انشدّ كيانه كلّه وتحرّق؛ هي ذي الجنة قاب قوسين أو أدنى، ولكنه لم يتقدّم، فهو مرصود لأعظم من هذا المَغنَم! وكأنما قرأ شوق العباس تِربٌ له، هو مسلم بن عبد الله، تقدّم نحو الإمام يرتدي قباءً أبيضَ، كملاك هبط من زُمر الملائكة المحدقين بالمكان، يرصدون نصرة الإمام، وهتف بقوة وشجاعة غبطه عليها كلّ من رآه وسمعه: -أنا آخذه يا أمير المؤمنين! وأعاد الإمام القول على القوم ثانية، فبرز الغلام من جديد، وأعادها ثالثة، فبرز الغلام ملهوفاً يكرّر بلهجة مَن يشتاق الجنة اللائحة بين رؤوس الأسنّة: -أنا آخذه يا أمير المؤمنين! وكأني بالإمام ينظر إليه برحمة، وتغرورق عيناه بالدموع، فها هو زمان الآلام قد أتى يعرض عليه غصص الأيام، وردّ بقوله: -يا فتى، إنْ أخذته فإنّ يدك اليمنى تُقطع، فتأخذه بيدك اليسرى فتُقطع، ثم تُضرب بالسيف حتى تُقتل! نظر الغلام إلى الإمام، وتبسّم في حياء، وهتف بحرقة ورجاء: -مولاي.. يا أمير المؤمنين، إنّ الذي تذكر في الله قليل! عندها دفع الإمام المصحف إليه، ولعلّ غصّة ما علقت بحلقه الشريف، فقد عاين فيه صورة مصغّرة لذاك الذي سيكون، ولعلّه التفت نحو العباس لحظة، ولعلّ العباس لاحظ نظرته إليه، وفهم مغزاها، فتوقّدت حواسه المتوقّدة أصلاً، وراح يراقب بقلبه اللاهف مسلم بن عبد الله الذي حمل المصحف ودخل في صفوف الناكثين. ووقف الفتى يخطب فيهم على حداثة سنِّه، ويدعوهم إلى كتاب الله، فانقضّوا عليه، وضربوه على يده اليمنى فقطعوها، ولكنه لم يهن ولم ينكل ولم يستسلم لألمه، بل التقط الكتاب بيسراه، وقد لاح له بين أطياف الغيم المتلبّد شعاع الحياة، وتمثّل له قول الإمام له، فتقوّى به على ما به، ورفع صوته يدعوهم ثانية، فضربوه على يده اليسرى فقطعوها، فانحنى يلتقطه بأسنانه، ودموعه تنساب، ودماؤه تنساب، فتحوّل بياض قبائه حمرة كالخضاب، ثم إنهم احتوشوه ومزّقوه بأسيافهم، ومزّقوا كتاب الله (عزّ وجل) وداسوه تحت أقدامهم! كان أصحاب الإمام ينظرون ويتلوّون، وينتظرون أمر الإمام، حتى إذا رأوا ورأى الإمام ما صُنع بمسلم، رفع الإمام صوته متضرّعاً إلى الله معلناً لهم الأمر: -اللهم فاشهد، اللهم فاشهد، الآن حلّ قتالهم! ......................................... في رحاب أئمة أهل البيت (عليهم السلام): مجلد 1-2، ص40، 41.