رياض الزهراء العدد 139 الحشد المقدس
سَمَّيْتُهُ (عَبَّاس)
قصة الشهيد السعيد (عباس حسن شاكر) لم تكن تعلم أنّها ستفقد بصرها تدريجياً بعد أن فقدت ولدها، ما في عينيها من ألم يشعل فتيل الحنين إلى فلذّة كبدها، فتقلّب كفيّها أسفاً لفقده, على الرغم من أنَّها وبقلبها المُحصَّن بالإيمان تضرّعت إلى بارئها ليُفرح قلبه، بعد أن بانت على وجهه سيماء الحزن لطول انتظار مبتغاه. خشي أن يكون هناك ذنب يحول دون ذلك، فأخذ يلتمس أمّه راجياً أن تدعو له لينال مغفرة الله ورحمة منه، وبات يراجع ما تصرّمت من أيام عمره، لم تدم حيرته طويلاً حتّى تناهى لسمعه جواب أمّه حين طمأنته قائلة: (بني مُذ كنتَ طفلاً وإحساس يراودني إنك لا تدوم لي طويلاً)، لا تقلق فإنَّ مكوثك هنا لن يطول، هي أيام معدودة ليس إلّا. تلك الأم لطالما كانت تغبط نفسها على ما أنعم الله عليها من ولدٍ بار، نجيب، أبيّ، مقدام، أفنى حياته لخدمة والديه وتربية أطفاله، ففي الوقت الذي عاشت فيه العائلة تحت وطأة الفقر أو دون ذلك، كانت هي تتقاسم ما يقع بين يديها من نزر الطعام كي تسد جوعتهم فتجد ولدها يكتفي بشربة الماء، بذلك القليل حامداً شاكراً لأنعم الله (عزّ وجل)، فلم تذكر يوماً أنّه تأوّه أو تأمّر أو تضجّر من شظف العيش بل شمرّ عن ساعديه منذ نعومة أظفاره ليعين والديه في تخطّي صعاب الحياة، فعمل جاهداً ليلاً ونهاراً ليُسهم في تأمين إيجار دارهم, وكم من مساءٍ عاد فيه إلى داره خالي اليدين، ليخبر أمّه أنّ فرحته اليوم أكبر من فرحته في يوم يعود بين يديه مال. سرعان ما بدد استغراب أمّه لمّا سمعت ذلك منه، حين أخبرها أنَّه وهب ماله لأطفالٍ فقدوا أباهم وأدخل السرور على قلوبهم المُيتَّمة. لا أحد يستطيع أن يحدد مدى تعلّقها به وسببه، أ لأنّه فلذّة كبدها؟ أم لأنّه أغدق عليها من البر والاهتمام ماعزّ نظيره؟ أم لأنّه رفع رأسها شامخاً حين أهدى روحه فداءً لسيّد الشهداء وحامل اللواء بعد أن قاتل وقاتل، وفي كلّ هجوم يعزموا عليه يُمنّي نفسه بالشهادة غير أنّها لا تدنو منه. كان جلّ ما يرجوه أن يرى كرامة الشهداء وسيّد الشهداء (عليه السلام). لطالما تحدّث مع أمّه مستفهماً: - أيّهما أفضل؟! أن يتلقّاني في قبري الحسين والعباس مبشّرين لي بالجنة؟ أم يتلقّاني منكراً ونكيراً منذرين لي بسوء ما اقترفته من أعمالي. كانت مستيقنة ثبات ولدها؛ فهي حين سمّته (عباس) وهبته لمولاها العباس وسيّده الحسين. تناهى إلى سمعها كلماته المعاتبة: أو لستِ تقيمين العزاء على سيّد الشهداء (عليه السلام)؟ ألم ترددي يا ليتنا كنّا معكم؟ فأين إذن كلّ هذا؟ وهذه فرصتنا الوحيدة لنكون من أنصار الحسين (عليه السلام). استقوت روحها بصبر مولاتها زينب (عليها السلام) وتأزَّرت بإزار السكينة والطمأنينة لتودّعه محفوفاً بدعواتها له ليصل بعد أيام إلى مبتغاه ويواسي مولاه أبا الفضل العباس (عليه السلام). فها هي بقايا جسده تُجمع بعد أن تناثرت بانفجار قذيفة هاون، وعادوا به إلى أهله، رأته أمّه محمولاً على أكف الأحبة، أرادت أن ترى كيف سيلقى إمامه، رأته بعد أن أصرّت على ذلك جسداً دون ساقين، يده اليمنى وجزءاً من جانبه الأيمن تناثر هناك على قمم حمرين، لم تصدّق أنّه هو إلّا بعد أن تفحّصت ما بقي من وجهه، هو ذاته الوجه النحيل ذو الابتسامة المنعشة للفؤاد، وجه قرّة عينها (عباس).