رياض الزهراء العدد 139 مناهل ثقافية
وَقْفَةٌ عَلَى عَرَصَاتِ الحَيَاة
توقفت سيارة الأجرة، نزلت منها شابة تحمل طفلاً بين ذراعيها، رتّبت حجابها وألقت بنظرة توجّس على المقابر المُوحشة، دفع زوجها الأُجرة ونزل هو الآخر، مشيا ببطىء، تأملت في المقابر هناك، قبر جُدّد قبل عشرين سنة، وقربه قبر معفيّ يلخّص لمَن يلهثون وراء الدنيا آلاف العبر، وهنا نفرٌ أهالوا التراب على عزيز لهم، كانوا يبكون ويحوقلون لكنهم لم يبقوا معه، بل نفضوا التراب عنهم وغادروا المكان تباعاً، (لقد بقي مع عمله، الآن قامت قيامته، رفقاً به ملائكة ربي)، تباطأت خطواتها إثر انشغالها بالنظر، فابتعدت عن زوجها، فما كان منها إلّا أن سارعت الخُطى لتكون قريبة منه علّها تشعر بالأمان، سمعت صوتاً يرتّل هذه الآية: (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ)/ (عبس:34-36). اتجها صوب مقبرة العائلة، جلس زوجها قرب قبر أبيه جلسة تكاد تكون سنویة، أخرج المصحف من جيبه وبدأ يلهج بالذكر الحكيم؛ أمّا هي فقرأت لعمّها الفاتحة، واتجهت بخطوات مرتعشة وقلب خافق إلى قبر ضمّ كلّ الحنان، وضعت صغيرها جانباً، ورمقت رمال ذلك الرمس الذي ضمّت حبّات رماله ذلك القلب الذي كان يقول لها في دقاته يا حبيبتي؛ والذي يضم تلكما الیدين اللتين طالما امتدتا إلى مهدها كلّما بكت دون ملل، واللتين داعبتا شعرها، وتلك الحنجرة ذات الصوت الدافئ الذي طالما سرد لها الحكايات إنه يحتوي تلك الشفتين اللتين طالما تمتمتا برجاء إلى الله تعالى بأن يحفظ ابنتها ويرزقها السعادة؛ واغرورقت عيناها بالدموع وهي تقول: (أمي الحبيبة لكم اشتقت إليكِ)! ثم أردفت معتذرةً: سامحيني يا أُماه، أعلم أني مقصرة بحقك، لكن مشاغل الحياة أخذت وقتي، فمن الدوام إلى البيت وأعماله التي لا تنتهي، وحفيدك الصغير وطلباته. أمّا الأم فلو أُذن لها بالكلام لقالت: (تزوّدي یا بنتي، فإنّ خير الزاد التقوى). بضع أشبار من التراب ما يفصل بينهما، لكنهما في عالمين مختلفين عن بعضهما كليّاً؛ الأول دار المعرفة المحدودة، والثاني دار تجلّي الحقائق. الأول دار تزوّد واستعداد، والثاني دار جمع وحصاد، الأول مهدّد صاحبه بالفناء، والثاني دار ماله نفاد، فإمّا شقاء وإمّا هناء، هزّت رأسها وقالت: كفى بالموت واعظاً (أخذتها أمواج التفكير)، أجل فهنا لابدّ من أن يعتبر الإنسان ويراجع حساباته قبل أن تفوته الفرصة ولن ينفعه حينئذٍ الندم. سأعيش أياماً تتسارع بي في شهور وأعوام، فإذا بي أرقد بين هؤلاء، وإن لم أتزود لحياتي الحقيقية، فسأظلم نفسي وسينساني أولادي كما أنا الآن، فالنسيان سُنّة من سنن الحياة. رشّت قبر أمّها بالماء، وقرأت لها بعض الآيات، جالت بنظرها في أجواء المقابر الموحشة وأحسّت أنها تقول لها: استعدي لسفرك وحصّلي زادك قبل حلول أجلك. مالت الشمس نحو المغيب مؤذنةً بالغروب، ناداها زوجها: شهد لقد تأخرنا. نفضت التراب من يدي صغيرها ولسان حالها يقول: (أجل، لقد فاتنا الكثير من الوقت، ولكن الحذر كلّ الحذر أن نضيع الباقي فنكون ممّن يقول: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ)/ (المؤمنون:107).