رياض الزهراء العدد 139 رفيف الجناح
«أوَفَيْتُ يَا بنَ رَسُولِ الله؟!»
انظر إلى يديّ، وإلى السماء المخيّمة بثقلها عليّ، وينطلق فؤادي بنداءٍ طبق خافقيها وخافقيّ: يا لثارات الحسين، هو ذا المنتقم الكرار بين يديك، فإن لم أثأر لدمك المهدور وحقّك المغدور، وحرمك المأسور وعليلك الموتور، ورضيعك المنحور وقلبك المكسور، فلست من اسمتني أمي بـ»المختار»! أصداء كربلاء تخاطبني، وصوت الإمام الداعي إلى النصرة يصرخ في أذني، ودعاؤه على من ظلمه وهتك حرمته يخترق أعماقي، فيفجّر فيها دماء الحميّة، ودموعاً تملأ أحداقي، وتهبّ ثورتي لتتجسّد رجالاً وقتالاً وحرية، وأي حريةٍ لا تكون أنت عنوانها يا سيّد الشهداء؟! لقد وضعتَ بكلماتك الأبيّة دستور الأحرار، ونصبتَ لواءك في كربلاء، فلم يسقطه إعصار ولا أسوار، بل كان ولا يزال مرفرفاً منتصباً يصرخ بالأنصار: «هيهات منّا الذلة..».(1) كلّ دعوةٍ خرجت من قلبك المقدّس قد جعلتها لي عهداً، وردّدتُها وغدت لي وِرداً، وكيف لا أفعل، وقد اتّخذت من ثورتك نبراساً أهتدي بشعاعه، وجعلتُ ثورتي امتداداً لصوتي الذي لا زلتُ أتوسَّلك لاستماعه؟! وقد علمتُ أنك حينما طلبتَ الناصر في ذلك اليوم، ما كنت تعني أولئك القوم، فقد عُميت بصائرهم، ولكنك عنيتَ كلّ من حال بينه وبينك حدّ الزمان والمكان، أو قيد السجن والسجّان. مولاي، وأنت تعلم أنّه ما أبطأ بي إلّا ذاك، وأنني حين سمعتُ بخبرك كدت أشرف على الهلاك، إذ فاتتني تلك المنّة، وحسدتُهم، وما حسدتُ أحداً قبلها، ولكنه رضاك والجنة، فلئن لم أفز بها من ذلك السبيل، فلعلّ الباري قد ادّخرني لأمرٍ جليل. مولاي، لقد لبّيت نداءك؛ أحرمتُ في مثواك، وطُفتُ بكعبة هواك، وسعيتُ متتبّعاً مسعاك، وها أنا ذا قد رجمتُ جمرات هواي، ثم انطلقتُ لأرجم من عاداك، وأتممت حجّي، فلستُ أبالي بعد هذا أن أكون أضحيةً في سبيل رضاك! لقد قادني صوتك المشبوب في ضميري ليحدّد لي مصيري، فرحتُ بملء كياني أخطّ درب مسيري: «قطع الله رحمك، ولا بارك الله لك في أمرك»(2)، «فإنك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، ولكأنّي برأسك على قصبةٍ قد نُصِبَ بالكوفة، يتراماه الصبيان ويتّخذونه غرضاً بينهم».(3) مولاي، هو المختار بين يديك، فلبيك وحنانيك، وإنّي لم أأل جهداً في تنفيذ أمرك ووعدك، لم أكن للمضلّين عضداً، بل سخّرت نفسي للبر بعهدك، قتلتهم تحت كلّ حجرٍ ومدر، ولاحقتهم واقتنصتهم على رؤوس الشجر، ونفّذتُ فيهم حكم الله وحكمك! ومع هذا، يلوّعني التقصير نحوك.. حينما أتذكّر جلستي في حضن أبيك أمير المؤمنين (عليه السلام) صغيراً، ومسحة يده المباركة على رأسي وهو يقول: (كيّسٌ كيّس..)، أردّد شكري. وحينما استرجع حديث ميثم التمّار في سجن الكوفة حينما أبلغني بحديث مولاي بخروجي ثائراً بدمك وقاتلاً لقاتليك، تثلج الذكرى صدري. وحينما أنظر إلى البعيد بنظرٍ حديد، وأرهف سمعي لصوت مولاي زين العابدين (عليه السلام)، وهو يردّد أعذب ترديد، حينما وُضع رأس ابن زيادٍ بين يديه، وقد أرسلته إليه: «وجزى الله المختار خيراً..»(4) أستشعر رضاك فأطمئن، وأرخي دموعي فتجري. مولاي، لئن لم تكن لي في الدنيا فضيلة إلّا هذه الدعوة الجليلة، فهي بمغفرة ذنوبي كفيلة، وها أنا ذا مقبلٌ على الشهادة، علّني ألقاك قتيلاً. وإني لأجرّد الآن سيفي للمرّة الأخيرة، لأصرع من ناواك، وقد جذبني شعاعٌ من نور الأفلاك إلى محرابٍ طالما رأيتُ فيه أباك، وقد اختلط ترابه بدمائه يوم ذاك، فأنطرح هناك، وأخلط دمي بنداك، وأردّد والروح تراك: «أوفيتُ يا ابن رسول الله؟!» .................................... (1) ميزان الحكمة: ج3، ص2688. (2) مستدرك سفينة البحار: ج4، ص112. (3) بحار الأنوار: ج45، ص10. (4) بحار الأنوار: ج45، ص386.