تَنْزِيْهُهُ (صل الله عليه وآله) عَن الضَّلَالَةِ قَبْلَ البِعْثَةِ
لمّا كان الهدف من إرسال الأنبياء (عليهم السلام) هو إيصال تلك الرسالة إلى الناس لغرض تصديقهم بها وأمتثالهم لها، وذلك ما لا يمكن تحقّقه مطلقاً فيما لو عُرِفَ عن هذا الرسول أنّه ارتكب معصيةً أو قارف ذنباً؛ لأنَّ ذلك من شأنه أن يتسبَّب في وجوب سقوط محلّه من قلوب الناس، ونفورهم منه وعدم الاطمئنان إلى أفعاله أو التصديق بأقواله؛ لذا قالت الإمامية بضرورة عصمة الرسول (صل الله عليه وآله) قبل البعثة، فيما ذهب مخالفوها إلى عدم ضرورة ذلك بل وادّعوا بأنه (صل الله عليه وآله) ــ والعياذ بالله ــ كان ضالّاً قبل بعثته واستندوا في مدعاهم هذا إلى قوله تعالى: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)/ (الضحى:7)، وهي شبهة واهية يمكن الردُّ عليها بما يأتي: أولاً: لا تقتصر كلمة (ضال) على المعنى الذي يقابل الهداية والرشاد، بل تدل على معانٍ أخرى، أهمَّها: - ضلَ الشيء: إذا لم يُعرف مكانه، وفيه إشارة إلى ضلاله في شعاب مكّة حينما كان صغيراً، ولولا رحمته تعالى لأدركه الهلاك ومات عطشاً أو جوعاً.(1) - ضلَ الشيء: إذا خفي وغاب عن الأعين، أي وجدكَ خافياً عن الناس رغم رفيع شأنكَ وعظيم قدركَ فهداهم إليكَ ودلّهم عليكَ. ثانياً: الضلالة التي تقابل الهداية والرشاد تكون على قسمين: أ- تكون الضلالة فيه أمراً وجودياً، وحالة واقعية كامنة في النفس، تستلزم منقصة تلك النفس وظلمتها، وهي كضلالة الكافر والمشرك والفاسق. ب- تكون الضلالة فيه أمراً عدمياً، أي أنَّ النفس تفتقد إلى الرشاد والهداية وغير مالكةٍ لهما من عند نفسها، وفي الوقت نفسه لا تكمن فيها الصفة الوجودية للضلالة التي تكمن في نفس المشرك والكافر كما تقدَّم، فتكون النفس في هذه الحالة أشبه بالطفل الذي أشرف على التمييز، فهو ضال بمعنى افتقاده إلى نور الهداية والإيمان، لا بمعنى اكتسابه لظلمة الكفر والشرك والعصيان. ومن الجدير بالذكر أنَّ تفسير الضلالة بهذا المعنى يؤكّد التوحيد الأفعالي، أي أنّ الإنسان كما لا يملك وجوده وحياته إلّا بإفاضةٍ من الله سبحانه، فإنَّه كذلك لا يملك رشده وهدايته إلّا بإفاضةٍ منه (جلَّ وعلا)؛ فالهداية إذاً مكتسبة، والاعتقاد بأنّها ذاتية يناقض هذا التوحيد؛ لأنَّها تستلزم غناء الممكن عن هدايته (جلَّ شأنه). وبما أنّ الآية وردت في سياق تعداد النعم الإلهية والفيوضات الربّانية عليه (صل الله عليه وآله)، حيث آواه بعد اليتم، وأغناه بعد العَيلة، إذاً تفسير الضلالة بمعنى إفاضة الهداية عليه بعد أن كان فاقداً لها هو الأنسب، وأمّا متى حصلت له هذه الهداية؟ فيجيب عن ذلك أمير المؤمنين (عليه السلام) قائلاً: "ولقد قرن الله به (صل الله عليه وآله) من لدن إن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ليله ونهاره".(2) ثالثاً: الشخص الضال لابدّ أن تُلمس آثار ضلاله في سيرة حياته، والرسول (صل الله عليه وآله) عاش أربعين سنة قبل بعثته الشريفة، أفيُعقل أن يكون ضالاً وطيلة هذه المدّة الطويلة لم تصدر عنه ولو معصية واحدة! بل المطَّلع على سيرته قبل بعثته لا يجدها إلّا حافلة بالتوحيد والأخلاق الفاضلة والسمات العالية. والخلاصة أنّ قوله سبحانه: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى)/ (الضحى:7) لا يدلُّ على وجود ضلالةٍ فعليةٍ قبل النبوّة، بل غاية ما يدل عليه هو أنّه (صل الله عليه وآله) لولا هداية الله له لكان ضالّاً، أي لو أنَّ الله (عزّ وجل) أوكله إلى نفسه، فإنَّه بما له من قدرات ذاتية وبغضّ النظر عن الألطاف الإلهية، والعنايات الربانية ضال قطعاً.(3) ...................................... (1) لاحظ السيرة الحلبية: ج1، ص131. (2) نهج البلاغة: ج2، ص82. (3) بتصرّف من كتاب (الصحيح من السيرة: ج2، ص201).