أرْوَاحٌ مُتَرَهِّلَةٌ

صباح قاسم البدري/ القادسية
عدد المشاهدات : 213

من سلوكيات اللسان خطر الكلمة، إذ اعتادت بعض الفئات في المجتمع يومياً أن تلتهم غيرها, والمأكول بعضه نقي والآخر سام وبكِلا الصنفين سيكون الملتهم مصاباً بالتخمة الظلمانية، وهو المرض البالغ الأثر ولكون هذا الأثر، غيبياً لا يرى المغتابون أعراضه فيتمادون في ابتلاع بعضهم البعض بشكلٍ مستمرٍ وأبدي، كما سيبتلع هفوات الآخرين وقبائحهم بكلّ يسرٍ وتنتقل حسناته إليهم تلقائياً، فأي خسارة أكبر من هذه! بل أي غبن للنفس! فأي رجيم سينفع مع هذه الأرواح؟ فالحقد، والغضب، والحسد، أو السخرية، والاستهزاء، أو حتّى لغرض اللعب، والهزل، ولعدّة أسباب تكون باعثةً على الاغتياب، وباتت الجلسات العائلية وتجمّعات الأصدقاء والأحباب لا تحلو إلّا مع مضغ شيءٍ من هذا المكروه وهم لا يرونه، ولكن يروق لهم طعمه، وإذا ما أنتبه أحدهم وصاح ماذا أنتم فاعلون؟ تراهم يستنكرون مبررين ذلك بأنَّهم ذكروا خطأً موجوداً فيه ولم يتبلّوا عليه! فتراهم لا يهتمون غير آبهين بالنتائج المترتِّبة على ذلك من انتشار البغض والحقد بين المجتمع، وانعدام الثقة، فضلاً عن كونها تحفّز لنشوب الخلافات وكشف العيوب، وغيرها من المفاسد التي تفتك بالعلاقات الإنسانية، وقد تؤدّي إلى سلسلةٍ من القتل والدمار أيضاً إذا ما انتقلت هذه الجرثومة الضارّة لأطوار متقدّمة، ألا وهي الفتنة التي أكَّد عليها القرآن الكريم بأنّها أشدّ من القتل. إنّ واجب رد الغِيبة وإسكات ألسنة المغتابين ما هو إلّا واجب على كلّ فردٍ في المجتمع، فضلاً عن تسليط عقوبةٍ على مجالس المغتابين غير المرغوبة أخلاقياً ودينياً، فقد ورد عن النبيّ (صل الله عليه وآله) أنَّهُ قال: "يُؤتى بأحدٍ يوم القيامة يوقف بين يدي الله ويدفع إليه كتابه فلا يرى حسناته، فيقول: إلهي ليس هذا كتابي! فإنّي لا أرى فيها طاعتي؟! فيُقال له: إنّ ربّك لا يضل ولا ينسى، ذهب عملك باغتياب الناس، ثم يُؤتى بآخر ويدفع إليه كتابه فيرى فيه طاعات كثيرة، فيقول: إلهي ما هذا كتابي! فإنّي ما عملت هذه الطاعات! فيُقال: لأنّ فلاناً اغتابك فدُفعت حسناته إليك".(١) فتلك آفة اجتماعية خطرة لها تداعياتها السلبية وخسائرها الأمنية والاقتصادية، فكم من معارك دامية نشبت بين أُسرٍ وسقط فيها قتلى وجرحى بسببها، وكم من بيوتٍ كانت عامرةً بالحبِّ والاستقرار خُرّبت وشُرِّد أفرادها، والإسلام يرفع دائماً شعار لا ضَرَرَ ولا ضِرَار. إنّ هذا الدين العظيم يرفض إيذاء الإنسان لأخيه الإنسان بأي نوعٍ من أنواع الإيذاء بالقول أو بالفعل، ولو رجعنا إلى القرآن الكريم لوجدنا نهياً صريحاً عن الغيبة، حيث صوَّر الخالق سبحانه هذا السلوك السَّيِّئ تصويراً منفراً لكلّ صاحب عقل ووعي، محذّراً من خطر الوقوع فيه، فقال (عزّ وجل): (وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ)(2)؛ لأنَّها انتهاك واضح لحرمة المسلم. أمّا الأبشع والأخطر فهو ما تبثّه وسائل إعلامنا المتنوّعة من تحريضٍ يومي على الغيبة وفضح الناس من دون وجه حق، مع أنَّ الإسلام أمر بالستر وحثّ عليه، يؤسف له أن يمارس الوالدان الغيبة والنميمة طوال الوقت أمام صغارهم، فيعلِّمون الأطفال منذ نعومة أظفارهم هذه العادة السيئة بل يتوارثوها وتهدر الملايين سنوياً من ميزانيات بيوتها ثمناً لمكالمات هاتفية معظمها لأجل تلك الآفة. إنّ السلوك الأمثل لمواجهة مدمني الغيبة والنميمة هو عدم الاستماع إليهم، فهذا أفضل عقاب دنيوي لهم. ..................................... (1) ميزان الحكمة: ج3، ص2330. (2) (الحجرات:12).