المُعَلِّمَةُ المُتَقَاعِدَةُ جَلِيْلَةٌ فِي مِهْنَتِهَا.. قَدَّمَت لِنَفْسِهَا التَّبْجِيْلَ فِي خِبْرَتِهَا
تُشير عقارب الساعة إلى السابعة والنصف صباحاً من يوم الأحد الموافق 30/ أيلول/2018م، ولا شيء سوى صوت الطالبات يملأ سماء مدرسة الحي، التي كانت في يومٍ من الأيام تعج بثُلّةٍ من المعلّمات والمدرِّسات، اللواتي كنَّ يبعثن في النفس البهجة والسكينة، ويُعطِين للعِلم خطوات نحو المعرفة. هناك، وعلى الجانب الآخر، مكتب صغير، تُقلِّب أوراقَ التقاعدِ امرأةٌ خمسينية تجلس على كرسي أسود اللون، وتتذكَّر كلمات الثناء وقت إنهاء الخدمة (سلمت يمينك)، فأدبرت بظهرها لقطار العمر، مقتنصة الفرصة؛ لتناجي فيها ذكريات طالبات علمٍ وأعوام دراسية بحلوها ومرّها في ما تبقّى من العمر،التقت مجلّة رياض الزهراء (عليها السلام) بشريحةٍ من المتقاعدات, للتعرّف على إنجازاتهن بعد التقاعد؟ تجربة ناجحة قالت (زكية السندي/ تربوية لأكثر من 20 عاماً): المتقاعدة هي التي أثبتت وجودها في مجال العمل على مدى سنوات طوال، وحصَّنت ما وصلت له بعد التقاعد، وتتابع: عن طريق تجربتي الشخصية مع مرحلة التقاعد وجدتُ فرصةً لالتقاط الأنفاس، لكنّي لم أترك نفسي لخواء الفراغ، بل حاولت أن أشغل وقتي في أمور بنّاءة ومهمة، أهمّها النشاطات الاجتماعية التي تخدم المجتمع، فشعرت بوجودي وأهميتي من جديد، وأصبح لحياتي معنى آخر، لتكون تجربة التقاعد تجربةً مميّزةً في حياتي. مرونة التوازن وتحدّثت ((م-ع)/ معلّمة متقاعدة عن تجربتها) قائلةً: عملت في مجال التدريس لأكثر من (22) عاماً، وفي بداية تقاعدي مررت بمدّةٍ عصيبة وصدمة من التغيير الذي طرأ على حياتي، لكن بعد أشهر عدتُ توازني وأخذت أنخرط في حياة التقاعد، وصرت أحاول أن أركز أكثر فأكثر على شؤوني الأسرية، وتربية أحفادي، ووجدتُ أنَّ في التقاعد متعةً أخرى وأوقاتاً مرنة تمكّنني من الاستمتاع بأمورٍ لم أكن أجد لها وقتاً فيما مضى، فأخذتُ أشغل وقتي بقراءة القرآن والتعبّد، وجعلتُ العمل التطوّعي والخدمة المجتمعية هدفاً لي، وتمكّنت أخيراً من ترتيب أولوياتي. وبيّنت (م-ع) أنه: عن طريق التعارف والجلسات القرآنية تعرَّفتُ على أفكارٍ وطروحات، واستمعت لتوجيهات ومقترحات تفيد النساء المتقاعدات، وتفتح أمامهن مزيداً من أبواب العمل وفرص النجاح، وكانت بداية خطواتي في حياة التقاعد هي تعليم كبار السن القراءة والكتابة. تقاعدت من العمل قبل حوالي ست سنوات ونظراً لخبرتي التربوية التي امتدت إلى (٢١) عاماً في مجال التدريس والإدارة التربوية اتّجهت لمواصلة عملي التربوي في مجال التعليم الديني في المجتمع كمتطوعة، نظراً لقلّة الملاكات التربوية المؤهَّلة العاملة في هذا المجال، فالتحقت بإحدى الحسينيات النسائية بمنطقتي وهي حسينية فاطمة الزهراء (عليها السلام) وقمت بتأسيس مركزٍ للتعليم الديني تحت مسمّى مركز الزهراء (عليها السلام) الثقافي، نظراً لافتقار المنطقة للمراكز الثقافية الدينية المخصّصة للناشئة، وقمت بتوجيه دعوةٍ لبعض الأخوات في المنطقة من مدرِّسات وحوزويات للانضمام إلى هذا المركز، فأصبح المركز يضم عدداً من المعلّمات، فضلاً عن الجانب الإعلامي. وقد لاقى المركز إقبالاً وتشجيعاً من أهالي المنطقة وهو يتولّى إحياء جميع المناسبات الدينية على مدار السنة من مواليد أهل البيت (عليهم السلام) ووفياتهم، فضلاً عن موسم شهر رمضان، ويوم العاشر من المحرّم، كما قام بإنتاج بعض الأعمال التمثيلية ونشرها عبر اليوتيوب. ويمتد نشاط المركز إلى المناطق الأخرى الراغبة في المساعدة على الصعيد التربوي. وجدتُ نفسي ابتسمت (اختيار حسن/ مدرِّسة تربوية من دولة البحرين) ولملمت أوراقاً على الطاولة وبدأت حديثها قائلةً: في مثل هذا اليوم تحديداً منذ سنتين كان هو اليوم الأول لي في مشروع التقاعد، وهو فعلاً مشروع رسمتُ فيه خطَّة اليوم والغد بعد أن وفَّقنا الله للعطاء طوال (22) سنةً من الخدمة والتعليم لعدّة أجيال. انقطعنا عن التعليم ومسمّى الوظيفة الرسمية فقط، إلّا أنَّ مسيرة التعليم كالنبض في دمائنا، فاليوم أترأس اللجنة الثقافية التي من مهامها عقد دورات التكليف السنوية لجيلٍ بعد جيل. فبعد التقاعد أصبحت لدي فرصة كبيرة وسانحة لتحقيق حلمٍ قديم رسمته أيضاً في ضمن مخطط حياتي، وهو الالتحاق للدراسة في الحوزة العلمية؛ فهي ساحة ربّانية للورود والانتفاع من علم محمد وآل محمد (صلوات الله عليهم أجمعين) التي لا تنضب لبناء الذات، وقاعدة خصبة لعطاء متجدد بلونٍ آخر تكسوه روح العقيدة والإيمان، فأصبحت كلّ أهدافنا وحركاتنا بمعرفةٍ نوعاً ما، وإن كانت نسبيةً وتحتاج إلى جدٍّ وجهد وجهاد خاصّة في هذا العمر. الجميل في ما بعد التقاعد هو إدارة الوقت وجدولة الأعمال، فكلّ يوم أحاول أن أترك فيه بصمةً مميّزةً أحمد الله فيها على نعمة التوفيق حتّى أتجنَّب (من تساوى يوماه فهو مغبون). فمع صبيحة كلّ يوم أضع لي أهدافاً محددة أقيمها في نهايته، وهل تم إنجازها وسبب الإخفاق في الإنجاز. ختاماً أستطيع أن أقول باختصار: إنني (وجدتُ نفسي..) نمط للحياة بيّنت السيّدة (عذراء عباس الشامي/ مركز الثقافة الأسرية) ماهية التقاعد وما هي الخطوات العملية للمتقاعدة في إجابتها قائلة: إنّ التقاعد يُشكّل نقطةَ تحولٍ مهمّة في حياة الفرد، خصوصاً بعد مدّة طويلة من ممارسة عملٍ معين ملأ عليه حياته، وأعطاه دوره ومكانته الاجتماعية، فالعمل ليس من أجل توفير دخل ثابت للفرد وأسرته فقط، وإنّما له جانب نفسي أهم، وللتقاعد معنى ضمني بأنَّ المجتمع بدأ يستغني عن المتقاعد وخدماته، لذلك أثبتت الدراسات النفسية والطبية أنَّ مستوى الانحدار في الصحّة الجسمية والنفسية قد يكون أشدَّ سرعةٍ في السنوات اللاحقة للتقاعد منها في السنوات التي سبقت التقاعد، ومدّة ما بعد التقاعد ممكن أو تكون مدّة استثمارٍ للوقت في أمورٍ جديدة كالتخطيط للذات وتنميتها وتهذيبها عن طريق العبادة والقراءة وممارسة الهوايات المفضَّلة، أو عن طريق المشاركة الفعّالة في مؤسسات الدولة أو النشاطات الاجتماعية أو الجمعيات الخيرية، والتخطيط للأسرة، ومتابعة الأبناء والتفرّغ لهم. وتصف السيّدة عذراء الشامي عن طريق مخطَّطٍ بياني أنَّ المرأة الأنجح في مرحلة التقاعد هي الأكثر ميلاً للرضا عن الواقع، والأكثر حرصاً على الاستقرار، والأكثر تحمّلاً وصبراً وتديناً، والأكثر حبّاً للاستقرار وميلاً لتقبّل التغيير، والأكثر ارتباطاً بالأبناء، وطاقة الإنسان غير محددة بالزمن أو العمر، فعندما يكون الإنسان محبّاً للخير ويُساعد الآخرين سوف يشعر بسعادة كبيرة وممكن أن تستثمر الخبرات التعليمية. سجّلت عقول المهتمّين بالتنمية البشرية في أوراقها أنَّ من الأسباب الرئيسة في رقي المجتمعات هو وضع محصول خبراتها في رأسمالها العامل، فترجمت المتقاعدات تراكم المعرفة، وتجاربهن في منظومة العمل وأهمية إيجاد آليات ترصد تلك التجارب وتنقلها إلى الأجيال المتلاحقة حتى لا تضطر إلى تكرار ما سبق إن وقعت فيه (فسلمت يمينك) معلّمتي.