رياض الزهراء العدد 142 مناهل ثقافية
دَارُ الرَّحْمَةِ
كلّ من كان يسكن في تلك المحلّة القديمة يعرفها حتّى صار اسم الزقاق الذي تسكنه زقاق الحاجّة رحمة، الجميع يأوي لها فتسعى جاهدة إلى قضاء حاجته أو ردّه طيب الخاطر.. مَنْ ينسى مفتاح بيته، ومَنْ ينفد خبزه، ومَنْ جاءه ضيف على حين غرّة، ومَنْ حدث لها سوء تفاهم مع زوجها أو جارتها، ومَنْ ضربه الأولاد ليجد بمعيّة قصصها سِفراً في المكارم، ويخرج من بيتها وهو يمسك بقطعة حلوى أو بالوناً وقد ارتسمت على محيّاه ابتسامة الرضا. لا أبالغ إذا قلت لكم إنّها استشارية نفسية بالفطرة؛ بل حكيمة أخلصت لربّها أربعين صباحاً فجرت ينابيع الحكمة من قلبها على لسانها. الحمائم أيضاً تقصد بيتها منذ الصباح الباكر زرافات زرافات لتجلس حولها وهي تأكل حبّات الحنطة، يُخالط صوت هديلها مع صوت الحاجة وهي تلهج بأذكارها الصباحية التي تعدُّها سنداً لها فتشكِّل سيمفونيةً بديعةً. وقد التقيت بمسنين طيبين لكن الحاجّة رحمة نسيج وحدها، حتّى تجاعيد وجهها زادتها جمالاً، وشعرها الأبيض الذي تدسّه باهتمامٍ بالغ. لم يسمعها أحد تشتكي يوماً أو أنّها تأوّهت من ألم أو عاتبت الزمان؛ لأنَّه تركها وحيدة بعد رحيل الحاج، خصوصاً وأنَّها لم ترزق بذرية؛ يبدو أنَّ نظرتها المتفائلة في الحياة جعلت حتّى لآلام الشيخوخة عذبة لا يعرفها إلّا من جلس على مقاعد صف الرضا. عندما تمشي بخطوات هيّنة تسلّم على الجميع وكأنهم أولادها وتردّ تحاياهم بأفضل ردٍّ، مدعمة إياها بدعوات فيّاضة بالحنان: (صبّحكم الله بالخير يا أولادي بحق الحبيب المصطفى، وأبعد عنكم كلّ سوء بحق عليّ المرتضى، وآتاكم من حظوظ الدارين أفضلها بحق سيّدة النساء). تقف في طابور المخبز منتظرة دورها دون أن يصرّ أحد على أن تسبقه؛ لأنَّهم يعلمون جيداً مدى امتعاضها من ذلك، ولعلّهم يعدّون لحظات مكوثها مغنماً لهم. كانت تردد الأذكار باستحضار قلب عجيب وكأنَّ لسانها ترجمان لقلبٍ يعيش التفات حضوره في محضر ملك الملوك. في المحلّة خبّازان يتسابقان على جلب رضا الحاجّة ويستلذّان في الزعل الطفولي المصطنع إن هي خالفت دور شرائها منه. أحمد صبي، الخباز اليتيم الذي يقضي أغلب وقته في عتاب زمانه بحزن، تنفرج أساريره حين تدعو له الحاجّة بإكمال نصف الدين. طلب ابنة الحاج كريم أكثر من مرّة إلّا أنه رفض؛ لأنَّ أحمد لم يتعيّن في وظيفةٍ مناسبة لشهادته وكلّما قوبل بالرفض راح يبث همّه للحاجّة، وفِي المرة الأخيرة طلبت الحاجّة أن تأخذه هي بنفسها، جملة واحدة من الحاجّة أتمّت بها الحجّة على الحاج كريم: الولد أكمل دراسته وبحث عن فرصة عملٍ فلم يجد، وهل صار العمل الشريف عيباً يا حاج، ألم يوصينا أهل البيت (عليهم السلام) بتزويج من نرضى خلقه ودينه وليس حسابه في المصرف. واقتطعت من بيتها غرفتين وقطعة من باحة البيت ليسكن بها أحمد وعروسه، وكانت تقول أحمد ابني وزهراء كنّتي. تَلَكَّأَ ذلك القلب الرحيم وإذا بهذا الأمر يشغل بال أهل المحلّة كلّهم، وقُلبت المستشفى رأساً على عقب، أمّا هي فكانت تطمئنهم ولَم يستطع المرض أن يسلبها ابتسامة رضاها المعهودة الّتي كانت ترتسم على محيّاها حتّى آخر لحظة لما قبل العروج. ورحلت الحاجّة رحمة إلّا أنّ ذكراها كانت أجمل ما تحمله القلوب، بيتها الذي كانت ترغب في أن توقفه مسجداً تحوّل إلى مؤسسة دار الرحمة الخيرية بعد مشورة شيخ المحلّة، ذلك أنّ المحلّة لديها مسجد كبير إلّا أنّ الحاجة لدارٍ خيرية كانت ماسةً ولا أُغالي إن قلت إنّ الدار كانت خيريةً قبل وقفها. والآن في كلّ صباحٍ يدخل أحمد دار الرحمة بعد أن صار المسؤول عنها وهو يحمل بيده رحمة الصغيرة ليفتح صوت القرآن الكريم وينثر الحبَّ للحمائم المنتظرة.