نَبْضُ الطَّودِ
جبل ككل الجبال الشوامخ تعانق قممها عباب السماء رفعةً وعلياءً، جبل له من الصلابة ما للجبال الرواسي من الثقل والقوّة، جبل يثبِّت الأرض الواسعة بأوتاده العظيمة تحت الأرض (وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا)/ (النبأ:7)، جبل ليس ككل الجبال فمادته ليست صخوراً صمّاء وإنّما مادة مختلفة تماماً، مادة معنوية لكنها أقوى وأصلب بكثيرٍ من الصخور، طود عظيم من أطواد الأمة تنحني البشرية له إجلالاً وإكباراً عند ذكر اسمه، جبل مجلل بالهيبة والوقار ومكلل بالقداسة اسمه (جبل الصبر زينب). زينب، كتلك الرواسي الشمّاء بعليائها وثباتها وقوتها، إلّا أنّ الجبل يبقى صامداً ثابتاً لا تتزعزع أركانه ولا تتصدَّع جوانبه مهما زمجرت العواصف والأعاصير من فوقه، ومهما اهتزت الأرض وتزلزلت من تحته، فكذلك زينب (عليها السلام) تسامقت لقمم الجبال في الصبر والثبات وشمخت كالطور في بيانها المسطور في قدرٍ مقدور في جميع مراحل حياتها نور على نور، وجبل الصبر هذا له قلب استثنائي، قلب صبور موقن، إلّا أنّ أحداثاً مرّت به اعتصر لها ألماً ككلّ القلوب الحنونة فازدادت خفقاته واضطربت نبضاته لهول تلك المصائب، اعتُصِر لأول مرَّة في طفولتها حينما فارقت معدن الوحي ومهبط الرسالة جدّها الرسول (صل الله عليه وآله)، وتدكدك بشدّة وهي لم تنفض غبار حزنها على جدِّها النبيّ (صل الله عليه وآله) حتّى شاهدت أمّها سيّدة نساء أهل الجنّة تُعصر بين الباب والجدار، ونبت في صدرها المسمار، وسقط جنينها على أعتاب الدار، واعتُصر أيضاً عندما شاهدت أباها وصي الرسول (صل الله عليه وآله) وأمينه على رسالة السماء وقالع باب خيبر، وقد فُلِقت هامته غدراً بسيفٍ مسموم، وتصدّع قلبها عندما رأت كبد أخيها شبيه الرسول (صل الله عليه وآله) وريحانته وسيّد شباب أهل الجنة مسموماً وهو يلفظ كبده في طشت، إلّا أنَّ اضطراب قلب الجبل هذا لم يزلزل كيانه، فالجبل يبقى جبلاً قوياً لصلابة مادته الأساس وقوة أوتاده ولأنَّ سيّد الشهداء (عليه السلام) كان قد مسح عليه بيديه الحانيتين في لحظة دعاءٍ وخشوع وخضوع ودموع قائلاً: اللهم اربط على قلبها بالصبر؛ لأنَّ الآتي أدهى وأعظم، إنَّها كربلاء التي تزلزل الكون لِما مرّ بها من أرزاء، فاجعة أبكت أهل الأرض والسماء، إذ مصارع الأحبّة والأنصار على الرمضاء، ورؤوس مرفوعة على الرماح، وأطفال تركض مذعورة من ألسنة النار وخوفاً من سحق الخيول، وقافلة سبايا من أرامل وأيتام، وشماتة الأعداء في رحلة السبي، ودخول حرائر الوحي ومخدَّرات الرسالة في مجالس الأدعياء وأبناء الطلقاء، كلّ تلك الصور التي اعتصر لها قلب جبل الصبر إلّا أنَّها ما رأت به إلّا جميلاً، لله درّكِ يا قلب زينب (عليها السلام) كيف رُبِطت بالصبر؟ فأصبحت نبض الطود الحامد الشاكر العارف الذي رفع ما تبقّى من أوصال مقطّعة، وعظام مهشَّمة، ليشكر القلب قبل اللسان بقوله: اللهم تقبل منّا هذا القربان. ومرّت صور هذه المآسي سريعاً على شريط الذكريات لزينب (عليها السلام) وهي تصارع الموت بين أطباق المنفى في أرض الشام التي عانت فيها ما عانت. واضطرب نبض الطود لهول تلك الصور المؤلمة إلّا أنّ اضطرابه هذه المرّة كان مختلفاً، فقد اضطرب الاضطراب الأخير وتوقّف نبض الطود ليلتحق بالرفيق الأعلى صابراً محتسباً إلّا أنّه سيبقى ذلك الجبل الشامخ العظيم الذي لا يهتز ولا يتزلزل قيد أنملة مهما ماجت الأرض من تحته؛ لأنَّها ثبتَّت إيمانها بأوتاد اليقين والتوكّل على الله (عزّ وجل) لتصبح جبل الصبر، وصرخة الحق، ورسالة الإعلام الحسينيّ الملتزم على مرّ العصور.