مِن جَابِرٍ إلى الإمَامِ البَاقِر (عليه السلام)

رجاء محمد بيطار/ لبنان
عدد المشاهدات : 245

هو الساجد ابن الساجدين، يتهادى في مشيته حتّى يصل إليّ.. إنّ وقعَ خُطاه لَيُعزف على أوتار قلبي الملهوف نبض الحنين، فهو ابن الرسول، وواشوقاه إلى الرسول! ولكن خطواتٍ أخرى ترافق خطواته، وأستشعرُ نغماتٍ صغرى تتداخل في نغماته؛ أي إيقاعٍ هو هذا، بل أي أنوارٍ تخترق بصيرتي فأستعيض بها عن بصري المفقود؟! وهل أفقدني نور العيون إلّا بكائي المجنون اللامحدود؟! إنّ فقدي للنبيّ (صل الله عليه وآله) تلاه فقدي لبضعته الزهراء (عليها السلام) وهي في عمر الورود، ثم زادني غصّة وبلاء فقدي للوصي الأكبر، بضربة سيفٍ غدّارٍ متجبّر، فزهدت في نور الدنيا الذي أضحى منهم خلاء، وأتى سم حبيبي المجتبى ليشطر فؤادي إلى شطرين، أحدهما دفنته معه والآخر في جدث الحسين. مولاي.. وتنساب الدموع على لحيتي الشائبة.. مولاي.. وتتدفّق الآهات صهيلاً يسكب روحي الذائبة.. ويقترب أكثر.. وأسمع صوته الملكوتي الذي أبحّه بكاؤه الدائم، وهو بكّاء بني هاشم: - "أي بني، قبّل رأس عمك!" ويحي، أعمُّه أنا؟!.. ومن أنا؟! .. وما أنا إلّا قطرة من ذلك الجنى، ونفحة من عشقكم المنتشر ها هنا!.. وأدخل الجنة قبل دخولها، فلقد لامست وجهي المتغضّن في محبّتكم قطوفها، وانطبعت على جبهتي المتصاغرة لعلاكم قبلتكَ ولا أحلى، هي أعزّ وسامٍ قلّدنيه المولى.. وترتجف يداي وأنا أضمّك، فأستشعر جنة المأوى تتغلغل بين ضلوعي، فتردّني إلى ربيعي نفحات أنفاسك الطاهرة البريئة التي تلفح عمري، وخفق قلبك النابض فوق صدري. أولستم أنتم ماء الحياة، مَنْ استسقى من عذب سلسبيلكم فاز بالنجاة؟! وأهمس في أذنك المباركة بالسلام المقدّس الذي حمّلنيه حبيبي المختار إليك: - "يا محمد، محمدٌ رسول الله (صل الله عليه وآله) يقرئك السلام!".(1) وأتذكّر دامع العين ذاك الحديث الشريف لحبيبي رسول الله (صل الله عليه وآله) إذ خاطبني بقوله: - "إنك ستدرك رجلاً منِّي اسمه اسمي وشمائله شمائلي يبقر العلم بقراً".(2) وإنني أُشهِد الله وملائكته وأنبياءه ورسله، أني بكم مؤمن، لم أتخلّف يوماً عنكم، حتّى حينما تخلّف الناس، ولم آخذ إلّا منكم، فأنتم الأصل والأساس، وإنَّ لساني هذا الكالّ لم ينطق إلّا بفضلكم، لم تُلهني تجارةٌ ولا بيع، ولا دنيا ولا ريع، عن ذكركم وتبيان حقّكم، وكنتُ ولا زلت أردد كلّ يومٍ على الملأ جليل مدحكم رغم اضطهاد أهل الدنيا لأحبّتكم. مولاي أيّها الباقر، بالأمس لقيتكم في كربلاء عند أول أربعين، كنتَ طفلاً ابن ثلاث سنين، وقد سمعتُ بكاءك ونحيب أبيك، ونوح عمّتك العقيلة فوق تلك القبور الجليلة، وتلمّست آثار الجامعة في عنقه وأنا أضمَّه إلى هذا الصدر، وعلمتُ بما جرى على بنات النبوَّة من سبي وأسر، فتمنّيت كما لم أتمن قطّ، أن أكون قد قُتلت في كربلاء مع أولئك الأكرمين، على أن أعيش لأشهد بعد بدر، وخيبر، وحنين، هذا الذل المبين، ولكن هيهات.. لقد منعني عن اللحاق بجدّك الحسين يومئذٍ فقداني البصر، ولكنه لم يمنعني عن أن أكون أول من سعى لزيارته وحضر. مولاي يا باقر العِلم، أفلا تلفّ كياني المقرور بكساء أمك البتول، بعدما نقلت حديثها إلى كلّ من رام الوصول، وضمنت به رضا الله (عزّ وجل) وجدّك الرسول؟! مولاي.. لي إليك حاجة أخيرة، ولا أظن أن جودك يقصر عنها، أنا الذي خدمتكم بضياء عينيّ قولاً وعملاً؛ أن تضمن لي الشفاعة يوم القيامة، أنا الذي لستُ أجد في حياتي كلّها غيركم أملاً.. بلى.. هي ذي يدك الحانية ترفق بضعفي، وتمسح على كنفي، فتهدأ نفسي وأكتفي.. مولاي.. إلى جوار جدّك المصطفى (صل الله عليه وآله) أرحل الآن قرير العين، وقد علمتُ أنني قضيتُ ما عليَّ من دين، فأردّد كما فعلتُ في كلّ حين: "عليّ خير البشر، فمن أبي فقد كفر".(3) ..................................... هو جابر بن عبد الله الأنصاري، من أجلّ أصحاب النبيّ (صل الله عليه وآله)، وآخرهم لحاقاً به، كان أول الزائرين للحسين (عليه السلام) في الأربعين، وتوفِّي في حياة الإمام الباقر (عليه السلام). (1) منتهى الآمال في أخبار النبي والآل: المجلد الأول، صفحة 169. (2) ميزان الحكمة: ج1، ص162. (3) الوافي: ج23، ص1381.