رياض الزهراء العدد 145 أنوار قرآنية
الرَّحْمَةُ وَالتَّذْكِرَةُ فِي قِصّةِ النَّبيّ أيُّوب (عليه السلام)
تبوّأت قصص الأنبياء مساحةً كبيرةً في القرآن الكريم، منها ما وردت في سورةٍ كاملة، ومنها في آيات متفرّقة، ومنها ما تكرّرت في سور عديدة لمقتضيات سياقية وبلاغية وغيرها؛ ومنها قصّة النبيّ أيوب (عليه السلام). وقد فُصّلت قصّته في ست آيات فقط توزّعت على سورتين، آيتان في سورة (الأنبياء:83-84) في قوله (عزّ وجل): (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ), وأربع آيات في سورة (ص:41-44) في قوله: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ * ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ * وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ). وبتأمل بسيط في القصّة بين السورتين نجد تشابهاً كبيراً في الألفاظ والمعاني إلّا بعض الألفاظ اليسيرة التي سنشير إليها لاحقاً, نلاحظ التطابق اللفظي بوضوح في (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ)، (أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى). ولو دققنا جيداً لوجدنا الاختلاف في صدر الآيتين يستتبعه الاختلاف فيما بعدها حسب السياق. والمقصود بـ «إذ نادى ربّه»؛ أي حين دعا ربّه رافعاً صوته يقول: يا رب؛ لأنّ النداء هو الدعاء بطريقة يا فلان، ومتى قال: (اللهم افعل بي كذا وكذا كان داعياً ولا يكون منادياً).(1) وورد في سورة الأنبياء نادى ربّه بأنه مسّه الضر ليكشفه برحمته الواسعة فاستجاب الله له (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا)، وصفت الرحمة هنا بأنها من عند الله (عزّ وجل) والرحمة في تعبير (من عند) أي (من حيث) لا تخلو من بلاغة، وهي أنّ الرحمة في كشف الضر قد تكون من عند الله أو عن طريق مَنْ يسخّره الله تعالى كشخص معيّن أو جهة معيّنة؛ ليكون مصدر رحمة وفرج لبعض الأشخاص (وذكرى للعابدين) والتذكرة: للعابدين هنا؛ لأنّ مَنْ توجّه لله بالدعاء لكشف الضر والنائبات فهو في عبادة، وحمد الله وشكره وقت الابتلاء عبادة، والإنابة والخضوع له تعالى في السرّاء والضرّاء عبادة، وحسب السياق يجب أن تكون التذكرة هنا للعابدين. وورد في سورة ص: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ) هنا ذكر القرآن الكريم صفة العبودية لأيوب (عليه السلام) ونسبها له تعالى بقوله (عَبْدَنَا) حيث نادى ربّه بأنّ الشيطان قد مسّه بنصب وعذاب، ومسّ الشيطان بإجماع المفسرين يعني وسوسته ليثنيه عن تحميد الله تعالى وشكره، فأنعم الله تعالى عليه بالشفاء ومضاعفة النعم (رَحْمَةً مِنَّا) والرحمة هنا من الله، فوسوسة الشيطان من أعظم البلاءات التي يواجهها العبد، ولا يمكن دفعها إلّا برحمة منه تعالى فقط، ولا يمكن أن يدفعها غيره: (وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ) أولي الألباب هنا أعم من العابدين وأدق في التعبير القرآني بلاغياً وسياقياً؛ لأنّهم هم مَنْ يلجأون إلى الله (عزّ وجل) لدفع وساوس الشيطان، فضلاً عن التأمل في جوانب القصّة؛ لأنّهم أهل الفكر والاعتبار، أمّا الاختلاف الحاصل في الآيتين في تعبير الرحمة والتذكرة ناتج عن اختلاف نداء أيوب (عليه السلام) في صدر الآية.(2) وعموماً فالرحمة هي الجنبة الفردية في القصة التي شملت أيوب (عليه السلام)، والذكرى هي الجنبة الاجتماعية فيها، وتشمل العابدين وأولي الألباب وغيرهم. ....................................... (1) تفسير مجمع البيان: ج8, ص322. (2) انظر درّة التنزيل وغرّة التأويل: ص907.