الاعْتِقَادُ بِالبَدَاءِ تَنْزِيْهٌ للهِ وَتَعْظِيْمٌ

ولاء قاسم العبادي/ النجف الأشرف
عدد المشاهدات : 230

البداء لغة: الظهور بعد الخفاء. أي تغيّر العزم وتبدّله بسبب ظهور أمرٍ كان خافياً، فيكون منشأ تبدّل العزم وتغيّره هو الجهل بما كان خافياً من جهةٍ ومنطلقاً من الندامة من جهةٍ أخرى. والبداء بهذا المعنى يستحيل على الله سبحانه لاستلزامه حدوث علمه بشيء بعد جهله به، وإنما أطلق هذا اللفظ من باب المشاكلة في التسمية ليس إلّا كنسبة الكيد إليه سبحانه في:(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا)/ (الطارق: 15، 16) وقد وقع مخالفو أهل البيت(عليهم السلام) في خطأٍ لطالما وقعوا به في المسائل الخلافية وهو عدم تحريرهم لمحل النزاع، فهم نسبوا إلى الإمامية الاعتقاد بالبداء بمعناه اللغوي المتقدِّم، على حين أنّ الإمامية تُنزِّه الله(عزوجل) عن هذا المعنى وتعتقد بالبداء بمعناه الاصطلاحي، وهو تغيير مصير الإنسان وما قُدِرَ له بسبب قيامه بأعمال صالحة أو طالحة. قال تعالى: (يَمْحُوا اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)/ (الرعد:39). ولمزيدٍ من التوضيح نقول: ينقسم القضاء من حيث إمكانية التغيّر فيه والتبدّل على قسمين هما: الأول: قضاءٌ محتوم في أم الكتاب ولا يقع فيه البداء. الثاني: قضاءٌ مشروط، ويتحقق بشرط توفّر مقتضياته وانتفاء موانعه كمشيئته في أنَّ تناول السم المميت يؤدي إلى الموت فيما لو لم يُتبع بتناول ترياق يبطل مفعول ذلك السم، فإن تناولَ شخصٌ ما ذلك السم فقد انطبق عليه القضاء المشروط وهو موته، فإن تناول الترياق تغيّر القضاء إلى عدم موته. وتغيّر القضاء هذا هو البداء، والقضاء الذي تغيّر هو من القضاء المشروط أو المعلّق، أمّا القضاء بعدم موته في المثال فهو من القضاء المحتوم الذي لا يرد ولا يبدّل؛ لعلمه السابق بتناوله الترياق بعد السم، فالبداء من الله تعالى يختص بما كان مشترطاً في التقدير وليس هو الانتقال من عزم إلى عزمٍ آخر، وكِلا القضائين يقعان في دائرة العلم الإلهي، بيدَ أنّ العلم بأولهما هو العلم الذاتي المقدّس عن التغيّر، وهو محيط بكلّ شيء وكلّ شيء حاضرٌ عنده بذاته. وثانيهما مرتبة من مراتب علمه الفعلي ومظهر من مظاهره، وعليه فإذا قيل: بدا لله في علمه فمرادهم البداء في هذا المظهر.(1) وبناءً على ذلك فالاعتقاد بالبداء بمعناه الاصطلاحي لا ينسب الجهل إليه سبحانه ـ كما يزعم البعض ـ والعياذ بالله؛ ولذا رُوي عن الإمام الصادق(عليه السلام): "مَنْ زعم أنّ الله(عزوجل) يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابرأوا منه"(2). وعنه(عليه السلام): "لكلّ أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه، وليس شيء يبدو له إلّا وقد كان في علمه أنّ الله لا يبدو له من جهل".(3) ومن الغريب حقاً أنهم يعتقدون بالنسخ في التشريع ولا يعترضون عليه ولا يجدون به ضيراً بينما يعترضون على الاعتقاد بالبداء اعتراضاً شديداً، مع إنّ منزلة البداء في التكوين كمنزلة النسخ في التشريع!! ولا يقتصر الاعتقاد بالبداء على تنزيهه سبحانه من الجهل فحسب، بل هو اعتراف صريح بأنَّ العالم تحت سلطانه وقدرته في حدوثه وبقائه، وإنّ إرادته نافذةٌ في الأشياء أزلاً وأبداً، ومن ثمّ فهو تنزيهٌ له عن العجز أيضاً؛ لأنّ الاعتقاد بأنّ ما جرى به قلم التقدير كائناً لا محالة يستلزم نسبة العجز إليه سبحانه. وقد لعن الله اليهود لقولهم بذلك فقال: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ)/ (المائدة: 64). ......................................... (1) انظر الإلهيات: ص583. (2) ميزان الحكمة: ج1، ص240. (3) تفسير العياشي 3: 218/71