رياض الزهراء العدد 146 منكم وإليكم
الحَجَرُ الأبْيَضُ
هو بيت الله، قال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ)(1)، هي الكعبة، بقية الفردوس المفقود الموعود، طهّرها الله تعالى وقدّسها، ودحا الأرض من تحتها وبسطها، وأخرج منها ماءها ومرعاها، حتى جعلها مقدّمة لحياة الإنسان، فإذا هي محطّ آماله منذ فجر التاريخ، ووضع أبو البشر(عليه السلام) أسسها، وركز فيها ذاك الحجر الأقدس، المشتقّ من جنان الرحمن، المشعشع ببياض اللجين، وعطر الريحان، حتى إذا أغوى الشيطان بني الإنسان، فسوّلت له نفسه اتّباع هواه، سوّدته الذنوب والخطايا، فغدا لحياة البشر سجلّاً حافلاً بالرزايا، فاجتمعت على ذلك البياض القدسيّ ظلمات النفوس الأمّارة بالسوء مع أنوار الملكوت، وغطّى السواد على البياض(2)، تماماً كما تتغطّى شمس موعودنا بالسحاب. وتنفرج أستار الكعبة عن الأسرار، وإذا بالأقدار تسجّل على قرطاس ذاك الحجر الأبيض؛ كيف ألقى آدم وحواء رحالهما على هذه الأرض، وكيف بدأت رحلة الخير والشر تخوض نفوس البشر، كيف تسلّل الحقد إلى نفس قابيل، حتى سوّلت له نفسه ارتكاب أول وأبشع جريمة، ليفتتح إبليس بالزقوم، والضريع أول وليمة. وتتوالى الجرائم والذنوب، ويغدو ديدن البشر أن يستسهلوا الجرائر ويستصغروا الكبائر، وشيئاً فشيئاً يتنكّرون لأصلهم وينفلتون من علاقة الرب بالمربوب، فيكفرون ويشركون ويعبدون الأوثان، وما عبدوا إلّا نفوسهم التي استزلّها الشيطان، ويكذّبون الأنبياء والأوصياء، ويقتلونهم ويطغون في البلدان، حتى يُرسل عليهم ربّهم عذاباً واصباً ويقهرهم بذلك الطوفان. ثم يعطيهم فرصةً أخرى.. قال تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).(3) بلى، ويعيد خليل الله(عليه السلام) بناء بيت الله(عزوجل)، ليثبّت لبني آدم من جديدٍ جذور جنتهم، وليتّخذ من جواره مصلى، وليؤكد به تلك الشعيرة المثلى، وليجدد به العهود والمواثيق الأولى. وتكرّ بضع مئاتٍ من السنين، ويقبل الصادق الأمين، فيحمل الحجر بأطراف الرداء، ويمسكه بكفّه البيضاء، ويُحِلُّه محلَّه في ركنه المكين. وتشرق أسارير الحجر، ويعاوده الأمل في أن يبيض على الأثر، فهو بطهرَ المصطفى قد تغمّس، وتتقلقل أرجاء البيت إذ يضمّ أنفاسه، فيكاد طينه أن يتنفّس ولكن، لا يشرق الفجر إلّا بعدما أن ينقضي وقت الغلس. ولا يمضي إلّا حيناً من الدهر، وإذا بتلك الجدران الطاهرة تؤدي إلى صاحبها ذاك الكنز الأنفس، وتشقّ صدرها لسيّدة بني هاشمٍ عساها تضع بين جنبات القدس وليدها الأقدس. هو بيت الله، وهو الحجر الأبيض الأسود، سجل التاريخ المخلّد، وهما الحرم الذي تنطلق منه الثورة العظمى، يوم تمتلئ الأرض جوراً وظلماً، ويهبّ جبريل صارخاً صرخة الحق بعد أن مضى بصمته قُدماً، وتهبّ القلوب التي طهّرها العشق المحمدي قِدما، ويغدو البيت والحجر شاهدين على إشراقة النور الوضّاء لخاتم الأوصياء. ترى، هل سيبيضّ الحجر ثانية حينما تلامسه كفه السمحاء؟! وهل سيغسل عنه هموم الزمان بدمعه المغمّس بالدماء؟! وهل سيعود الزمان جديداً، جديداً كأن لم يكن فيه ظلم ولا جور أو عناء؟! بلى، ولن يكون ذلك إلّا بعدما تنكشف سجوف الغيم(4) عن شمس المهديّ(عجل الله تعالى فرجه الشريف)، فينكشف حينها السواد المدلهمّ ويعود الحجر كاللجين الندي، وتنبثق من ذين وذين أشواق السماء، ويغمر القلوب والنفوس والأرواح ذاك الضياء. ................................. (1) (آل عمران:96). (2) وكان أشد بياضاً من اللبن فاسودّ من خطايا بني آدم/ من لا يحضره الفقيه: ج2، ص165. (3) (البقرة:127). (4) سجوف الغيم: أحد السترين المقرونين بينهما فرجة/ القاموس المحيط: ج2، ص388.