رياض الزهراء العدد 146 منكم وإليكم
المَوْلُودُ الأعْظَمُ بَرَكَةً عَلَى الإسْلَامِ
يتأخّر قدوم نوره، فينال الوجل من قلوب المحبِّين أن يفقدوا نور الأب الذي بان أثر كهولته وليس هناك من خلفٍ صالح بعده، يلحّونَ عليه بالسؤال مَنْ الإمام من بعدك يا بن رسول الله؟ فيُطمئنهم بأنه قادم لا محال لكن لله الخيرة في أمره؛ إذ يؤخّره لوقتٍ غير معلوم. تتصرّم الأيام ويأتي النور الذي طالما طلبوه أنه نور الإمام التاسع محمّد الجواد(عليه السلام)، يُكنِّيه الإمام الرضا(عليه السلام) بأبي جعفر، يكبر في حجر الإمامة ويفيض عليه الإمام(عليه السلام) من أشعة روحهِ المشمسة، يصحبه في حلّه وترحاله ويطعمه بيديه، كان يقول إنه المولود الأعظم بركةٍ على الإسلام؛ لأنه أول وصيٍّ تقلّدَ الإمامة المبكِّرة، أنه مظهر قدرة الله وعظيم معاجزه، ملكَ عواطف العلماء والفقهاء بمواهبه وعبقرياته وملكاته العلمية الهائلة وجذب انتباه المأمون؛ حيث كان يطوف مع موكبه الرسمي في بعض شوارع بغداد وقد رأوا في الطريق صبية يلعبون، حالما عاينوا الصبية الموكب هربوا إلّا الإمام أبا جعفر الجواد(عليه السلام) تسمَّر في مكانه ولم يهرب كما هرب الصبية، فقال له الخليفة: يا غلام لماذا لا تهرب منّي كما هرب الصبية، فأجابه الإمام(عليه السلام) بجواب فصيح أُعجب به كثيراً: "يا أمير المؤمنين لم يكن بالطريق ضيق فأوسِّعه لك، وليس لي جرم فأخشاك، والظن بك حسن إنك لا تضرّ مَنْ لا ذنب له"(1)، لا عجب وهو فرع من أهل بيتٍ قد منحهم الله(عزوجل) العلم وآتاهم من الفضل ما لم يؤت أحدٌ من العالمين. كان الصالحون وما زالوا موضع خطر يهدد عروش الطغاة ويقضُّ مضاجعهم، لذلك قرَّبه المأمون وعزم على تزويجه من ابنته أم الفضل لدواعٍ سياسية وليستبقي الإمام(عليه السلام) أمام ناظريه، ويكون على علم بنشاطات الإمام أبي جعفر الجواد(عليه السلام). وعمد العباسيون إلى إفشال خطة التزويج، والشواهد التاريخية خير دليل، فمحاورة الإمام الجواد(عليه السلام) مع يحيى بن أكثم قاضي قضاة بغداد، كان على أثر ثورة رجال البلاط العباسي على المأمون، لكن عندما سأل يحيى أبا جعفر الجواد(عليه السلام) (ماذا تقول في محرم قتل صيد)؟ وفرّعَ له الإمام في المسألة عشرين فرعاً وسأله الإمام؛ أيّ فرع منها أراد، فبان تلجلج يحيى، في وقتها صعقوا ومُلئت قلوبهم بالخيبة من ذكاء الإمام(عليه السلام) وغزير علمه وهو لم يتجاوز الثامنة من عمره الشريف. عاش الإمام الجواد(عليه السلام) مدّة في بغداد وأجواء الرفاه الاقتصادي آنذاك عندما أجرى له المأمون مرتّباً سنوياً يبلغ حوالي مليون درهم، وقت كان الدرهم الواحد يساوي قيمة شاة، إلّا أنّ الإمام لم يصرفها على نفسه, بل كان يوفِّرها للفقراء والمحرومين لكثرة جوده وسخائه فهو الجواد(عليه السلام). ................................. (1) شرح إحقاق الحق: ج19، ص586.