سَلِيْلَةُ الشُّرَفَاءِ

زهراء عبد الأمير حسن/ البحرين
عدد المشاهدات : 545

"فداها أبوها" قالها الأبُ الحنونُ رضاً وإعجاباً بوردته الصغيرة، حينما التقى بالوفد الذي كان عائداً من منزله للقائه ولم يجده، حيث كان الوفد محمّلاً بمجموعة من الأسئلة الفقهية من الناس، فأجابتْ عليها تلك الطفلةُ، وهي ذاتُ أربع سنوات. لم تكن سليلة الشرفاء كقريناتها من بنات جنسها؛ فهي ليست كباقي الأطفال الذين لا يفقهون من الحياة سوى اللعب واللهو، بل كانت عالمةً، ولا غرابةً في ذلك؛ فهي من منهل العلم ومنبعه، وما تلك الحادثة إلّا نبوءة لمستقبل زاهر لتلك الفتاة، الشخصية الفذّة العملاقة، ليُعنى بها عناية خاصة. ولكي تمحّص بالبلاء، وتلتحق بركب الصابرين عليها تحمّل المصائب، التي انهالت عليها في حداثة عمرها، فما بين ولادتها في الأول من ذي القعدة عام 173هـ، حتى وفاتها في عام 201هـ عانتْ وتحمّلت الكثير. كانت في السادسة من ربيع عمرها حينما سُلب ضوء والدها عنها، ومُدّت يدُ الغدر إليه استلالاً وحجباً، ليُطمر في غياهب السجون، ويُدس إليه السم؛ ليُقطع الأمل في اللقاء، بُغية تسلل اليأس لقلوب محبِّيه فتذبل الوردة شوقًا لذاك الضياء، وفي ذلك سرور عدوّهم. لكنهم لا يدركوا أنه كلّما أفلت شمسٌ بزغت أخرى، وأنّ الأخ أب ثانٍ، وشمس تتبعها الزهور، يرسل أشعته؛ فتستقبله انعكاساً لمرآة القلوب، فيُنشر الحب وتكون البراءة عنوانه في عصمة مكتسبة مانحة للخلود. نعم، تخلّد ذكرها، وفرضتْ وجودها، إنها فاطمة بنت الإمام موسى الكاظم(عليه السلام)، فرغم التضييق والمراقبة الخانقة لبيوتاتهم من قبل الدولة العباسية آنذاك، إلّا أنها واجهتهم بكلّ شجاعة وإقدام قلّ نظيره، كجدّتها الزهراء وعمّتها زينب (سلام الله عليهما)، وكانت باب الله تعالى الذي منه يُؤتى، فعُرفت بكريمة أهل البيت(عليهم السلام)، والراهبة ابنة راهب آل البيت(عليهم السلام) أبيها، فزهدت في الدنيا، حتى تكالبت عليها المصائب في محنة مشابهة لهجوم الدار، لولا تدارك الإمام. فعندما تسلّم المأمون الخلافة العباسية أرسل قائد جيشه (الجالودي) لاقتحام بيت الإمام الرضا(عليه السلام) في المدينة المنورة مع دور آل أبي طالب، ليسلب حُلل نسائهم وثيابهن، إلّا أنّ الإمام(عليه السلام) اعترضهم ومنعهم وطلب منهم أن يكفّوا عن السلب، وهو من سيقوم بالمهمة دونهم ولهم ما أرادوا، فجمع النساء وكانت فاطمة معهنّ في حجرة واحدة كي لا ينتهك عرضهنّ، وتتكرر لطمة الخد، وغرس المسمار، وتكسير الأضلع، ويُسلب قرط رقية من جديد، وتعود الأحزان أوجاعاً. ولكن العدو أبى إلّا رجوع زينب الحسين ومصائبها، في مشهد مشابه في تعلّق الأخت بأخيها ثم نزعه منها عنوة، وهذه المرّة - وإن كانت لا تعادل مرارة كربلاء - إلّا أنّ الفراق هو الفراق، بل إنّ السيّدة فاطمة(عليها السلام) شهدت كذلك مقتل أخوتها أمام ناظريها، بعدما اُشخص الإمام رغماً عنه من المدينة المنورة إلى "مرو" لاستلام ولاية العهد الصورية، ليكون تحت عين السلطة ورقابتها، فودّع الإمام أهل بيته بالبكاء والعزاء الذي لا رجعة فيه، حتى مضى عام على الفراق، اشتاق الأخ لأخته، فاستأذن ليكتب إليها كتاباً يطلب منها القدوم عليه. لم تسعها الأرض حتّى حملتها الأشواق على أجنحتها للقاء الحبيب وتأهَّبت للخروج محفوفة بالإخوة والبنين، وبعض الخدم، كخروج السيّدة زينب(عليها السلام) لأرض البلاء. وصل الركب الفاطمي منطقة ساوة فأرسل لهم المأمون عصابة تستقبلهم بالسيوف لتجهز على الرجال وتشرّد العيال وتترك النساء ثكلى وكلّ ذلك بمرأى من الأخت، ليودعها الحزن أو السم تمزيقاً لجسدها الشريف وتقع أسيرة المرض، دون لقاء الحبيب. فآه آه من زمنٍ لا تُقدّر فيه الأخوة، وما أحوجنا اليوم لفاطمة والرضا(عليه السلام) وتمثّل نموذجهما الزكي لنزكو.