السَّيدَةُ الحُرَّة
كان النهر جميلاً ذلك اليوم، بعذوبة مائه تعيش الكائنات، فطالما كانت الحياة ماء، وها هو الماء يحمل على سطحه صندوقاً صغيراً تملأه الحياة، إنّها حياة الرضيع موسى، فسبحان من أوحى لهذا الصندوق أنّ يطفو بكلّ هذه الانسيابيّة والتعقّل؟ إنّه يدلّ على الطريق، الطريق إلى فرعون! على الجرف النهري جنودٌ يمكثون كالطود العظيم، إنّه «فرعون» مَن تكبّر وتجبّر، فأخذ يذبح براعم الحياة، إنّهم الرُّضع وروح الطفولة، فهذا ما يفعله الرعب بالظالمين، إنّه الفزع الأكبر وكابوس الموت، يسلبون حياة الآخرين، ويقتاتون على أرواح المستضعفين علّهم يبلغون مأمنهم، ولكن لا يزيدهم ذلك إلّا جنوناً وغروراً. الصندوق يقترب ويقترب، ينبض له قلب الملكة، وأيّ ملكة، إنّها «امرأة فرعون»، تأخذه، فتبصر ذلك الوجه الشعاعي، هو النبيّ موسى. إنّ الحبّ الذي ألقاه الله في قلبها هو نفسه بذرة الإيمان الخالص، وبهذا الإيمان ستقنع غطرسة فرعون اللعينة باتخاذ الرضيع ولداً لهما علّه ينفع. وهكذا صارت أمّاً في التربيّة لأحد أنبياء أولي العزم، هي «آسيا بنت مزاحم» السّيّدة الصالحة، سليمة القلب والفطرة، الأمل المرتجى للخلاص من كلّ هذا الشر والخراب وبطش القوّة. كَبُر الرضيع وصار نبيّاً فأعلن حقيقته، ليزلزل عرش فرعون وجنوده، أمّا آسيا فلم تتوانَ طرفة عين عن تصديق ربيبها، إنّها تتوق إلى عبادة ربّها، تتأمّل حال فرعون فترفض تصديقه، فما فرعون سوى طاغية، أخذت تمشي على الأخطار، وتخلّت عن حياتها الملكيّة وكلّ المباهج والزخارف، فما الإنسان سوى مبادئه وقيمه، وهكذا ضربت للعالمين مثالاً في الحريّة والصمود، فالحريّة مسؤوليّة، وعليك أن تتحمّل أعباء قرارك وتحزم أمرك واختيارك، وبلا أدنى تأثير خارجي أو قيد أو تردّد. الحريّة هي أن يتخلّى الإنسان عن معتقداته الزائفة التي يتبناها فقط ليجامل القطيع، ورغم كلّ المنغّصات يصرّ على حقّه في الاختيار، وهكذا فعلت سيّدتنا آسيا. أمّا صمودها فشيءٌ آخر، إنّه الصبر والتصبّر عندما يكون خالصاً لوجهه تعالى يصبح حلواً رغم مراراته، ذلك لأنّ الصابر واسع الرؤية، يرى أنّ مرارة الحال مؤقّتة لا تدوم، ويتطلّع لمكانته الأبديّة فبها تقرّ العيون. وهكذا سيدّتنا آسيا صُلبت في لهيب الشمس، وضُربت بأعنف الصخور والحجارة إلّا أنّها كانت باسمة الثغر مطمئنّة. إنّنا اليوم رجالاً ونساءً أحوج إلى الصبر والحريّة، ذلك لأنّ الزمان محفوفٌ بالمكاره، وأنّ القلوب تتقلّب وتفسد، من يدري علّه اليوم مؤمن فيغدو جباراً شقياً، فالبلاءات في النفوس كثيرة، وقد تزلّ الكثير من الأقدام بتصارع الأحداث وتسارعها، فما يثبت سوى أنقياء السريرة والضمير، وهذا الثبات يحتاج إلى الكثير من الجرعات المكثفة من الحريّة والصبر والمرابطة، تماماً كآسيا بنت مزاحم(عليها السلام).