فِي انْتِظَارِ أَبِي

زينب ضياء الهلاليّ/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 204

أتى الليل إلى مدينتي من جديد، واحتضنها كأبٍ حنون عاد إلى عائلة بعد غياب طويل، وانزوى كلّ أبٍ إلى بيته بعد يوم طويل. وبقيتُ في انتظار أبي أياماً طويلة، أتذكر ذلك اليوم الذي ذهب به للجِهاد عندما حضنني، إحساس في داخلي قال لي هذا الوداع الأخير، عانقتهُ بشدّة وشممت عطرهُ المتميّز بالشهامة والقوّة والصبر والتعب الذي مزج كلّ صفات الرجولة، لم أستطع أن أقول له لا تذهب؛ لأنّ الوطن أولى مِنْ كلّ شيء. كانَ يتصل بي كلّ ليلةٍ ويقصَ عليَّ حكاياتهم وشجاعتهم في الحربِ، جنودنا هم رجال المستحيلات، لا شيء يصعب عليهم، زلزلوا الأرض بانتصاراتهم، بقاماتهم وشموخهم وبأجسادهم التي عرفت الجوع والخوف والبرد نرى الوطن حرّاً ولا يُخاف عليه من أيّ شيء. سألت والدي مرةً: هل يوجد في الجبهة خوف؟ أجابني وهو مبتسم: لا مكان للخوف هناك، إنّها الشجاعة وكفى. اتصل بي والدي في أحد الليالي، وتحدث معي كالمعتاد، ثم صمت للحظات، فعاد ذلك الإحساس في داخلي، بأنّ شيئاً خطيراً سوف يحدث! حبيبتي: هل تعرفينٍ أنّ هذه الليلة لدينا هجوم إلى داخل أرض العدو، وهناك احتمال كبير أن الله سيرزقنا الشهادة، في تلك اللحظة بقيتُ صامتة، كلّ الكلمات ماتت في صدري. أبي الذي تخلّى عن الكثير فقط من أجل تربيتي بعد وفاة والدتي، ها هو يتخلّى عنّي من أجل الوطن، في تلك الليلة غفوت للحظات، وإذا بأناس لم أصادف مثلهم في حياتي، لهم مظهر مخيف ووجوه مغلقة ونظرات عدوانية، ملتحون، يدخلون إلى غرفتي وأسلحتهم موجهة نحوي، صرخت ولكن لم يستطع أحد سماعي، اقترب أحدهم منّي وبلحظة خاطفة أدخل يده إلى صدري وكأنّه سرق جزءاً منّي، أخذه وخرج، وبقيتُ أنا مع مزيجٍ من الحزن والذهول والذعر. نهضتُ واتصلتُ بوالدي؛ لكن لم أستطع التكلم معه، في تلك اللحظة عرفت أنّي فقدته وضاع منّي وسط هذه الحرب، فُقد الكثير من الجنود بسبب الهجوم، ضاعت الكثير من جثث الشهداء، والدي كان في ضمنهم، سنةٌ كاملةٌ مرّت، بحثت عنه طويلاً لكن لم أعثر عليه، بقيتُ فقط انتظر وأتخيّله يدخل البيت بابتسامته المشرقة، وأحياناً أتخيّل دخول نعشه، وكانت له مقولة تصبّرني: (عندما تستشهد في أرضٍ مجهولةٍ في سبيل الدفاع عن الوطن تأكّد تلك الأرض ستصبح جنّتك). زينب ضياء الهلالي/النجف الأشرف