السَّلَامُ عَلَى قِبلَةِ العُبَّاد
في سباقات الدنيا الفانية يتبارى الناس لنيل الحظوة والفوز في نهاية المطاف، فيشمّرون عن سواعد الجدّ كي يفوزوا بإحدى مراتب الشرف، هي سباقات ينتهي مشوارها ويتلاشى طعم الفوز بها مع مرور الأيّام، لكنّ سباق الآخرة الأزلي لا يتبارى فيه إلاّ مَن أختصّه الله(عزوجل) سبحانه بفضله، وارتضاه لطاعته، ووفّقه للانقطاع إليه. مثلما أنّ الفوز بسباقات الفناء لا يعدّ فخراً لصاحبه، لأنّه فوز مؤقّت لا تدوم حلاوته ولا تبقى لذّته مهما تظاهر الإنسان بالرضا، أو حاول إطالة مدّة نشوة الانتصار، فهو إلى زوال واضمحلال شاء ذلك أم أبى، أمّا الفوز الأخروي فهو على النقيض من ذلك تماماً، لأنه فوزً مقرّون بفخرٍ لا نهاية له، فهل هناك أعظم من هذه اللذّة الدائمة؟!. الذي طوى كلّ مسافات الوصل في هذه الدنيا، وعاش تلك اللذّة الدائمة هو الإمام الكاظم(عليه السلام)، وهو السجين الأشهر في تاريخ الإسلام، طواها بكلّ عذاباتها ومراراتها، وتحمّل كلّ الظلامات ليصل إلى معشوقه الأزلي، لا ليصل إلى جنّته السرمديّة، بل لكي يذوب في محبوبه الذي طالما ناجاه في خلواتٍ مضت، سائلاً الله(عزوجل) أن يرزقه خلواتٍ أُخر ليتفرّغ فيها لعبادته، وقد فعل. الطوامير التي شهدت انقطاعه لمحبوبه باتت هي الأخرى تئنّ مع أنينه، وتضجّ إلى الله(عزوجل) بالتسبيح والتهليل، لقد كان كلّ شيء يسبّح مع تسبيح أنفاسه، أصفاده، جدران طامورته، حتّى ظلّه الذي أعتكف ساجداً مع سجدته الطويلة، هو السباق بأعظم تجّلياته وأجمل صوره. وكلّما صبّوا عليه حمم غيظهم وحقدهم عالجهم بكظمٍ لا قِبَل لهم به، وكلّما أوسعوه حبساً وتقييداً وتضييقاً؛ جابههم بعريكة تهزّ الجبال الرواسي، وبإرادة إيمانيّة صلبة دونها كلّ إرادة، حتّى باتوا عاجزين عن تركيعه وإذلاله لسلطانهم الجائر، ولعلّ خير مَن وصف الإمام المسجون هو شاعر أهل البيت(عليهم السلام) مهدي جناح الكاظمي، حين أبدع فكتب: عـلّمـت أجـيال عقيدة ثورة مـن عـنـدهـا يـتعلّم البركان فإذا القيود على يديك مشاعل ورؤى بـهـا يـتـحـرّر الإنسان يا راهباً لـبني العلا من هاشم بـك فـاخـرت أهل السما عدنان يا زاهداً والـمـلـك طوع بنانه وعـلـى شفاهك يسجد الإحسان يـا قـبـلة العباد راح على المدى مـتـوشـحـاً بـردائك الإيمان فسلامٌ عليك يا سيّدي يا كاظم الغيظ ما طلعت شمسٌ، وما أطلّ قمرٌ، وسلامٌ عليك ما كرّت الليالي والأيّام.