قُصَاصَاتٌ في جِيبِي

خديجة عليّ عبد النبيّ
عدد المشاهدات : 162

إنه هو! بعد كلّ هذه السنوات..، تقدّمتُ قليلاً كي أتأكد من ملامحه التي قد تغيّرت كثيراً، لا أستطيع أمنع نفسي من ملاحقته من دون أن يشعر بي في وسط زحام المركز التجاري هذا، بل إنّني ألاحق بعض الذكريات، محمّد عبد الحفيظ مدرّس اللغة العربية، كان رجلاً ستينياً في ذلك الوقت، فارع الطول لبنيّ الشعر وهادئاً، يُخيّل لمَن يراه أنه قادم من حكاية في كتاب يرتدي جلّ الناس فيها طرابيش حمراء ويهتفون بجلاء الاستعمار، لقد كبرت كثيراً يا معلّمي، لا أدري لماذا لا نتقبّل أن يشيخ آباؤنا وأمّهاتنا وأن يكبر معلّمونا؟! ربما: ألأنهم مرآة لِمَا يحدث لنا، وأنّ الزمن يمرّ على سكّتنا كما يحدث معهم الآن، فنُصاب بهلع التفكير بنفاد الوقت قبل أن نحقّق ما نريده أو حتّى أن نكون على أهبّة الاستعداد للرحيل الذي ليس ببعيد عن شرائطنا البيضاء وحقائبنا الورديّة! المؤلم أنّه لن يتذكرني.. لكنّني سأمرّ بالقرب منه من دون أن يشعر، وأردّ تحيّته القادمة منذ زمن بعيد وهو يقف قرب اللوح الأسود آمراً إيّانا بفتح الكتب. - أعاني أحياناً من تحليل كلّ شيءٍ أمامي والتفكير في تفاصيله.. ما إن أقرأ لأحدهم وأجد ما يكتبه قد مسنّي وجدانياً أو إنسانياً حتّى أتساءل في قرارة نفسي: تُرى ما الذي أوجعه لهذه الدرجة حتّى يكتب بهذا العمق! - أحبّ النظر إلى السماء.. بيد أنّ أجسام المباني العظيمة تؤرّق هذا المشهد الجميل؛ لذا كثيراً ما أترك النظر إليها وأرنو نحو الأضواء البعيدة القادمة من مربعاتها، فما أسرع لأن تكون حكاية مخفيّة لأشخاص سيسكنون مربعات أخرى في إطارات صور قديمة! - أنا أفهمكِ تماماً يا صديقة! إنها ألغام خفيّة لا يحسّ بوجودها غيركِ، تدوسها قدماك ِ فنتفجر! ما إن تمري بقرب مكان ما أو تري وجه أحدهم.. تظهري بمظهر المزاجي أو غريب الأطوار.. وصدّقيني.. كلّ له ألغامه. - أعرف أنّ في كلّامك رائحة الياسمين، لكنّ أنوف البعض مزكومة! - ثم إنّك أصبحت هادئةً فجأة، صامتةً كصخرة معمّرة، لقد ألبسك ما حدث وقاراً أمام الآخرين من حيث لا تدرين.. ربّما لاحظتِ هذا الأمر، وربّما حدثتِ نفسك قائلةً: أنا لست حكيمةً كما تظنون.. ولكنّه الألم يا سادة! لقد كنتِ تتظاهرين بالموت وأنت طافحةٌ بالحياة، لم يكن بيدكِ منع مجيء ذلك الحزن الذي سقط كالحجارة في قلبكِ، وتفتّت في أوردتك.. فتساءلتِ.. هل يستطيع المرء غسل أوردته؟! المحارب.. مَن يُولد في مكان لا يشبهه، بنفسجة على سفح جبل، فراشة تعيش في وسط صحراء، سمكة تسكن عشّ عنقاء قرب فوهة بركان، ريشة طاووس تزّين رأس ظالم. القبح.. عبارة (هذا من فضل ربّي) حُفرت على باب منزل مسروق، آياتٌ تُتلى بريق نَمّام، المتاع دمعة تتأرجح في عين مستضعف مظلوم ، وجه طفل جميل يفوح من وجنتيه العطر ملفوف بالكفن راح قرباناً لثأر بين الكبار.