حَانَ الرحيلُ في الشَّهْرِ الفَضِيلِ

زينب العارضي/ النجف الأشرف
عدد المشاهدات : 238

ها هي رياح الإيمان قد هبّت، ومواسم الخيرات قد أقبلت، وازدانت الدنيا بشهر الله وأشرقتْ.... شهر تُجاب فيه الدعوات، وتُقال العثرات، وترفع الدرجات، وتُمحى السيئات، وتجزل فيه المِنَح والهبات، جعله الله تعالى لعباده الفقراء واحةً غنّاء، بل جنّة خضراء؛ ليركنوا إلى ظلّها، ويتمتّعوا بخيرها، ويتزوّدوا من ثمارها زاداً للعام كلّه، إنّه شهره الكريم الذي دعانا إلى اغتنامه واستقباله بالحمد والشكر، وإعمار أيامه ولياليه بالهدى والخير، إنّه شهر رمضان شهر نزول القرآن، الشهر الذي تلقّينا فيه خبر رحيل والدي الحبيب إلى رحاب الله تعالى وفوزه بالجنان. كان أبي رحمه الله قد التحق قبل سنين بإخوته المقاتلين، تلبيةً لنداء المرجع الأعلى وإغاثة للملهوفين، حينما هجم الأعداء ودنّسوا أرض الأولياء والصالحين، هناك هَبّ أبي ملبياً داعي الفتوى، مضحياً بما عنده طالباً التوفيق والسداد، أذكر يومها كيف وضع يده على كتفي ومسح على رأسي وقال بحنوّ الوالد الرحيم وقلب القائد العظيم: أنا أثق بكَ يا عليّ، وسأتركُ البيت بعهدتك، كنْ رجلاً وبيّض وجه أبيك، اعتنِ بوالدتكَ وإخوتكَ، واطمئن فأنا سأدعو لكَ. كانت يده دافئة ناعمة، وعيونه تترقرق فيها دمعة حالمة، كأنّه يُخفي خلف تلك الحروف شوقاً لم أكن لأفهم معناه، واليوم وبعد ثلاث سنوات من رحيله أرجو أن أكون قد فهمتُ شيئاً ممّا أخفاه. كان أبي يستأنس كثيراً بحلول الشهر الفضيل، ويوصينا بالتزوّد منه قبل أن يعتزم الرحيل، لا زلتُ أذكر كيف كان يُحيي لياليه ويغتنم سويعات نهاره بين حسينيّة ومسجد، وقضاء حوائج الناس وعمل وتهجّد، وترتيل الآيات، ومساعدة أمّي في بعض المسؤوليّات، كان حمامةَ سلام، أينما حلّ يزدهر المكان ويسود الوئام. ما زلت أذكر كيف كان مواظباً على قراءة أدعية السحر، وتتناثر دموعه كأنّها حبّات مطر؛ لتغسل روحه الطاهرة، فيقوم مُشرقاً متألقاً كأنّه قرص قمر. ودّعنا أبي في أواخر شهر رمضان؛ ليذهب مع مجموعة من رفاقه الشجعان، الذين آثروا البقاء على السواتر؛ كي ننعم نحن بالأمان، وفي ليلة إحدى وعشرين اتّصلت به والدتي لتطمئن على حاله، فأجابها مبتهجاً بأنّه بخير، ثمّ أوصاها بنفسها وبنا، ثمّ كلّمنا واحداً بعد الآخر، وكان يقول بيقين: إنّه سيكون ضيفاً عند مولانا أمير المؤمنين(عليه السلام)، وأنّ علينا أن نكمل مسيرته، ونفخر بشهادته، وفي تلك الليلة سمعنا أنّه استشهد عند أذان المغرب قبيل الإفطار، والتحق بركب الشهداء الأبرار، ولا ريب أنّه حَظِي مثلما تمنّى بلقاء سيّده الكرّار.