فَجْرُ الشَّهَادَة
شيئاً فشيئاً نقترب من فجر الشهادة، إنّها الليلة الأخيرة، فهَل تنقضي بالوداع أم بالعبادة؟ طفحت من عين أمّ كلثوم دمعة حينما رمقت السماء وكأنّها تبحث عن الإجابة، ثمّ حوّلت نظرها نحو أميرها لتراه هل هو راقد أم ما زال جالساً في مصلّاه؟ فوجدته ما بين دعاء وخشوع، وقيام ثمّ ركوع؛ فليلة واحدة لا تكفي للتضرّع إلى الله لِمَن وجده أهلاً للعبادة، والكلمات لا تفي حقّ مناجاة العشق الإلهيّ، ولكن قد قَرُب الأجل وانقطع الأمل، كم هي مؤلمة هذه الكلمات على قلب أمّ كلثوم وأشدّها، رؤية جدّها(صل الله عليه وآله وسلم)وهو يقول: "يا أبا الحسن إنّك قادم إلينا عن قريب، يجيء إليك أشقاها فيخضّب شيبتك من دم رأسك، وأنا والله مشتاق إليك، وإنّك عندنا في العشر الآخر من شهر رمضان، فهلمّ إلينا، فما عندنا خير لك وأبقى، قال: فلمّا سمعوا كلامه ضجّوا بالبكاء والنحيب وأبدوا العويل، فأقسم عليهم بالسكوت فسكتوا، ثمّ أقبل يوصيهم ويأمرهم بالخير وينهاهم عن الشرّ، قالت أمّ كلثوم: ولم يزل تلك الليلة قائماً وقاعداً وراكعاً وساجداً، ثمّ يخرج ساعة بعد ساعة يقلّب طرفه في السماء وينظر إلى الكواكب وهو يقول: والله ما كَذَّبتُ ولا كُذِّبتُ، وإنّها الليلة التي وُعِدْتُ بها، ثمّ يعود إلى مصلّاه ويقول: اللّهم بارك لي في الموت، ويكثر من قول: "إنّا لله وإنّا إليه راجعون"(1)، وأرّق جفنها المثقّل بالدموع قول أبيها: (هي هي والله الليلة التي وعدني بها حبيبي رسول الله)، فجعلها تنتظر الأذان، فلمّا بان الفجر بِلَوعة الرحيل لاحتْ علامات الحزن على كلّ شيء حتى سرب الإوز صفّق أجنحته وصاح وكأنّه يقول: مولاي ارجع لكي لا نفقدكَ هذا الصباح، ولم يجد الباب ما يتعلّق به سوى المئزر علّه بذلك يمنع حيدر. حلّه ومضى ومن خلفه بكاء وعويل، إنّه الوداع لسفرٍ طويل، فسار إلى المنيّة حتى دخل المسجد والقناديل قد خمد ضوؤها إلّا نور عليّ(عليه السلام) لم يخمد، وقف في محرابه يصلّي وكأنّ الوجود خلفه اصطفّ مكبّراً، وما إن هوى ليسجد هوى السيف على رأسه غير متردّد بضربة من أشقاها فضرّج المحراب فيض دمه، فاصطفقت الأبواب لعصف الرياح، ونشر الحزن بالسماء أسود الوشاح، فنادى جبريل ببكاء وعويل: تهدّمت والله أركان الهدى، حينها تيقّنت أمّ كلثوم أنّه فجر الشهادة. ..................................... (1) بحار الأنوار: ج42 ، ص 277.