حِينَما يُدَاهِمُ اللَّيلُ الليلَ!
ينثال الحلم، يريد أن يرتّب الواقع... الهواء قلويّ والأحاديث جافّة، القلوب تجلس القرفصاء وتهذي مع الريح التي تسترسل على الخدود المالحة، الدقائق عجاج فوضويّ يدور بمغزل الزمن، الليل يهدر سواده مدادًا للحدث الحزين، يقوم بدهس كلّ مَن في طريقه بعتمته وغبشه مبتدئًا بنفسه، الطريق يطول.. ويطول، يُثقله الأسى، والمسافات هائلة على الرغم من قصرها.. تباعدها، الظنون والهواجس تنبش في الأفئدة التي تذوي وتنطفئ كنيازك مجنونة ضلّت طريقها في الفضاء مسرعةً بلا هدى حتى يبتلعها الثقب الأسود، الخوف يُشعل الحرائق في الأرواح ويوسمها، ثمّ يكوّمها في خرابات الفقد والمنفى. الدروب مكتظّة تتلألأ بأسراب اللبن! وثمة كفّان صغيرتانِ متكومتانِ تحت إناء البياض، تحاولان التوازن في زاوية من هذا الحدث، عينان ساهمتان بجفنين منتفختين لا تبارحان وجه الباب، وقلب بطراوة الماء توخزه الوجوه الواجمة، كم مرة أعاد هذا الصغير ترتيب هيئته بعد أن عبث بأطراف ثوبه طويلًا متململًا منتظرًا، يفضفض لانعكاس صورة وجهه على سطح اللبن، يزيل بقعة منسكبة منه على ردائه، فربما يتمّ اختيار قدحه من بين المئات الرابضة قرب البيت، فيقابل العزيز في أيّ لحظة! يرنو نحو السماء مناجيًا إياها مرارًا ومبتهلًا: أرجوكِ.. لا تقومي بأخذ والدي مرة أخرى! وثمة قلب آخر خلف الأبواب والجدران، يتآكل ببطء، يرقب نصف الحقيقة القادمة، تفرك صاحبته كفّيها بتضرّع لينتشر منهما عطر الآس والورد وطيب آخر لا نعرفه، تطارد القدر بدعائها.. بصوتها الذي ورثته عن أمّها، وتتفاوض معه كي تطول هذه الجملة في حكايتها، تتمدّد وإن كانت موجعة! بيد أنّه لا أحد يهرب من قدره.. لابدّ من أن يرتطم بها، لكنّه لن ينال من روحها التي تتشظّى في كلّ مرّة على سلالم درجات الارتقاء إلى الله في حكاية البلاء المخطوطة في اللوح، تتوهّج بأشعة العظماء الخمسة كفسيفساء زيّنت حاشيتها..