النُمرُقَةُ الوُسطَى
لم تكن السهامُ التي سُدّدت إلى جنازته(عليه السلام) هي السهام الأولى، بل سبقتها سهامُ حقدٍ أيتمته، وسهامُ طمعٍ خذلته، وسهامُ تجرّؤٍ على مقامه المنيف آلمته(1)، وسهامُ غدرٍ سمّمته. ولم ينفرد الإمام الحسن(عليه السلام) من بين المعصومين الأربعة عشر بتجرّعِ كأس الأذى، فقد تجرّعوه هم أيضاً بدءًا بالرسول الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم) الذي ما أوذي نبيٌّ بمثل ما أوذي، وانتهاءً بالإمام الحجّة(عجل الله تعالى فرجه الشريف) الذي كانت أبرز أسباب غيبته حفظه من القتل. ولم يكن الأعداء هم المسبّب الوحيد لهم (عليهم السلام) في الإيذاء، بل كان المُفرِطون في حبِّهم إلى حدِّ الغلوِّ في إيذائهم شركاء. وبذا يمكن تقسيم اعتقادات البشر بهم (عليهم السلام) إلى ثلاثة أقسام، هي: الأول: التقصير: يتدرّج من إنكار بعض المقامات التي خصّ الله(سبحانه وتعالى) بها أهل البيت(عليهم السلام) أو كلّها وصولًا إلى نصب العداء لهم ومحاربتهم. وأبرزها: إنكار كراماتهم، إنكار عصمتهم، إنكار إمامتهم, مساواتهم بغيرهم من المسلمين، تفضيل غيرهم عليهم، نصب العداء لهم ومحاربتهم. الثاني: الغُلوّ: الغُلُوّ: يكون بتجاوز الاعتقاد بهم (عليهم السلام) من حدّ العبودية إلى مقام الربوبيّة. قال الشيخ المفيد(قدّه): "والغُلاة من المتظاهرين بالإسلام هم الذين نسبوا أمير المؤمنين(عليه السلام) والأئمّة من ذرّيّته(عليهم السلام) إلى الألوهيّة والنبوّة، ووصفوهم من الفضل في الدين والدنيا إلى ما تجاوزوا فيه الحدّ وخرجوا عن القصد"(2). وقد رفض الأئمة(عليهم السلام) الغلوّ أشدّ الرفض في الكثير من الروايات، منها ما رُوي عن خالد بن نجيح الجوار قال: "دخلتُ على أبي عبد الله(عليه السلام) وعنده خلقٌ، فقنّعت رأسي، فجلست في ناحية وقلت في نفسي: وَيحكم ما أغفلكم عند مَن تكلّمون؟ عند ربّ العالمين! قال: فناداني(عليه السلام): وَيحكَ يا خالد، إنّي والله عبدٌ مخلوقٌ، لي ربٌّ أعبدُه، إنْ لم أعبدْه والله عذّبني بالنار. فقلتُ: لا والله لا أقول فيكَ أبدًا إلّا قولكَ في نفسكَ"(3). وقد اتّبعت الإماميّة أئمّتها(عليهم السلام) في ذلك، قال الشيخ الصدوق(قدّه): "اعتقادنا في الغُلاة والمفوّضة أنّهم كفّارٌ بالله جلّ اسمه، وأنّهم شرّ من اليهود والنصارى والمجوس، والقدريّة، ..."(4). الثالث: النُمرُقة الوسطى: رُوي عن الإمام الباقر(عليهم السلام): "يا معشر الشيعة،- شيعة آل محمّد- كونوا النمرقة الوسطى، يرجع إليكم الغالي، ويلحق بكم التالي"(5). والنمرقة (بضمّ النون والراء وبكسرهما): هي الوسادة، ووصفت بالوسطى؛ إشارةً إلى المرتبة الوسطى بين الإفراط والتفريط، بين الغلوّ والتقصير. فهي النهج الذي يُنزل أهل البيت(عليهم السلام) منزلتهم التي أنزلهم الله فيها، فلا إنكار لمقاماتهم وكراماتهم مثلما يفعل المُقَصِّرة، ولا رفعهم إلى مقام الألوهية مثلما يفعل الغُلاة. وبهذا يلتزم الشيعة على مرِّ العصور وفي جميع أنحاء الأرض, رُوي عن أمير المؤمنين(عليه السلام) أنّه قال لأبي ذرّ: "اعلم يا أبا ذر، أنا عبد الله (عزّ وجلّ) وخليفته على عباده، لا تجعلونا أربابًا، وقولوا في فضلنا ما شئتم، فإنّكم لا تبلغون كُنه ما فينا ولا نهايته، فإنّ الله (عزّ وجلّ) قد أعطانا أكبر وأعظم ممّا يصفه واصفُكم، أو يخطر على قلب أحدكم، فإذا عرفتمونا هكذا فأنتم المؤمنون"(6). وخلاصة النمرقة الوسطى التي دعانا إليها الأئمة(عليهم السلام)، أنَّهم لا يملكون ما يختصّ به الله(سبحانه وتعالى)، لكنّهم من العظمةِ بمكانٍ بحيث لا ندركُ حقيقتهم. ..................................... (1) رجال الكشّي: ج1، ص237. (2) تصحيح الاعتقاد: ص 131. (3) بصائر الدرجات: ج1، ص262. (4) الاعتقادات في دين الإماميّة: ص97. (5) شرح أصول الكافي: ج ٨، ص241. (6) بحار الأنوار: ج26، ص2.