حَدٌّ وَضِدٌّ

مريم حسين/ كربلاء المقدّسة
عدد المشاهدات : 456

كلّ ما يزيدُ عن الحدّ، ينقلبُ إلى الضدّ، إنّه نصٌّ حكيم يتمّ تداوله بكَثرة بين عامّة الناس، تختلفُ لهجات نطقه ولكنّ كلّها ترمي إلى معنىً واحد، والتساؤل الذي قد يقفز إلى الذهن بعد تبحّر في فحوى القول هو كيف يزيد الشيء عن الحدّ؟ ومَن ذا الذي يتسبّب بزيادته؟ ومَن ذا الذي سينقلبُ عليه الأمر ويُصبح ضدّه؟! الأمر هُنا لا يتعلّق بالإفراط في الطعام مثلاً، فيُصبح حدّ "التُخمة" هو الضدّ الذي يتحصّل من المبالغة في الأكل، ولا يشبه الأمر المُغالاة في الإنفاق ليُصبح "الإفلاس" هو الضدّ الناجم عن التبذير، نعم إنّها أمثلة سديدة و مُتعارفة، لكن ماذا لو نظرنا إلى الأمر من عُمق آخر؟ من زوايا وأبعاد ثلاثية أو أكثر؟ يندرج مفهوماً "الحدّ" و"الضدّ" في كلّ الأمور على وجه التقريب، من أيسرها حتى أعقدها، من زيادة النوم حتى زيادة التوقّعات، والآمال. كلّما غامرت في إضافة مُنكّهات لا تتناسب مع الطعام الذي تُعدّه فإنّكَ تبذل جُهداً، وتُنفقُ وقتاً وثمناً على شيء لتسكبه في سلّة المهملات! هكذا بكلّ بساطة، مع علمكَ المسبق بكلّ هذا، أنتَ تنغمسُ مع علمكَ أن لا قشّة ستظهر لكَ على سطحه فتعلق آمالكَ عليها، ولا جذعَ شجرة متيناً فتلقي عليه جسدكَ ويسيرُ بكَ إلى الساحل، تغوص في العُمق وتجازف بما بقي لكَ من أوكسجين وأنت تعلم يقيناً أنّه سينفد في منتصف الطريق، أو ربّما في أوله! تضعُ احتمالات هشّة لتُغري نفسكَ بالمُضي، وأنّ اليابسة على مقرُبةٍ منكَ، وستتنفّس الصعداء في ظرف دقائق، فتتزايد هذه الدقائق لتُصبح ساعات، فأياماً، فأسابيع، ثم تقف عند إشارةٍ حمراء ساطعة، وتلتفت لتجد السنوات التي مرّت تنظرُ إليك مُشفقة، آسفة للحال الذي وصلت إليه، إلى الحطام الذي سمحت له بالتجمّع فوق روحكَ، والطبقات الضبابية التي جعلتها تُغلفكَ، طبقةً تلو أخرى، حتى حجبتكَ عن نفسكَ... لقد أذنتَ لها باجتيازكَ، بالقفز من فوقكَ، وقد نسيتَ أنّها عمركَ. لكن لا يفوت الأوان مطلقاً على الاستيقاظ، هنالك دائماً جهاز تنبيه سينجح عمله في توعيتك لطالما إنّكَ تسمح له بذلك من دون اللجوء إلى الحلّ الأسهل والأكسل وهو ضغط زر "الغفوة" مراراً وتكراراً؛ لتؤجّل الحياة بضميرٍ يدّعي الارتياح الزائف. لا يفوت الأوان مطلقاً من أجل إعادة الأمور إلى نصابها، ومعادلة كفّتي الميزان المتأرجحتين فيكَ. في اللحظة التي ستعي فيها أنّكَ تحتاج إلى برمجة مستحدثة، ستقفُ الأقدار في صفّكَ، تنظرك بعين الرحمة والعطف، تأخذ بيدكَ نحو فجرٍ آخر، تُفجّر في عروقكَ دماءً متوهّجة، تُحرّك وجودكَ نحو الرضا، تُزيحُ عن كاهلكَ أكواماً من الماضي مهما زاد ثقلها وطال أمدها، وتحيطُكَ بالنور، الانبلاج الذي تحتاجه لتسير في سبيلٍ جديد، الضوء الذي كان في نهاية النفق ولم تبصره، سيأتي إليكَ بذاته ليُخرجكَ من النفق برمّته، ويُمهّد لكَ طريقاً في البحرِ يبَساً.