الوَداعُ الأَخِيرُ

خديجة عليّ عبد النبيّ
عدد المشاهدات : 191

مجموعة من الرجـال يسـيرون فـي الصـحراء علـى حذر، يحملون معهم المعاول وآلات الدفن. رائحة الدماء القريبة تريهم ما لا يبصـرون بـأعينهم..، جاعلة أحداث المعركة أكثر وضوحًا فـي أذهـانهم.. كلّما اقتربوا منها، يتعثّر أحدهم بسـيف مكسـور ملقـىً على الأرض، يتوقّفون فجأة، ينظر بعضهم إلى بعـض.. أول علامة علــى الوصول إلى هــدفهم.. ســاحة المعركة.. مشـوا خطـوات قليلـة، فغرت أفـواههم ممّـا يشـاهدونه..، وكأنّ لعنة قادمــة مــن الأزمنــة الســحيقة جــاءت فأفقدتهم القدرة على الحديث.. ففي حضـرة المـوت يصمت الجميع ليسمع صوته فقط.. لم يجرأ أحد على الحركـة سـوى نسـمات الهـواء الســـاخنة التـــي كانـــت تحـــرّك أطـــراف ملابســـهم وعمــائمهم.. نســمات الهــواء المحمّلــة برائحــة الــدماء الزكيّة هي فقط مَن تجرّأت على النطق.. أجساد ممدّدة، مبعثـرة، متنـاثرة الأشـلاء، أجسـاد متربة مغبّرة، آثـار الخيـام المحروقـة ورمادهـا الـذي لايزال تذروه الرياح على الجثث السابحة بدمائها، المفصــولة عــن رؤوســها، التــي غيّرتهــا حــرارة الشمس..، السيوف والرماح والأسنّة المكسّرة المرمـيّ بعضها على الصـعيد و الآخـر مغـروس في أجساد هؤلاء القتلـى.. وكأنّ عاصفة هوجاء قد ضربت هذه المنطقة! أحــد الأســدييّن يقول وهــو ذاهــل يــدير رأســه يمينــاً وشـمالاً: كانـت نسـاؤنا علـى حـقّ.. والله إنّه لمشـهد يشيب منه الطفل الصغير! أسديٌّ آخـر يقتـرب مـن القتلـى بـبطء ويشـرئب بعنقه قائلاً: إنّ الأجساد بلا رؤوس، كيف سندفنها؟ أسديٌّ ثالـث يلمـح شخصاً يقتـرب مـنهم فـي الأفق ثم يومئ نحوه بسبابته: مهلاً.. انظروا.. هناك! كأنّ أحدهم قادم نحونا كان يـراهم مـن بعيـد، ويعلـم مَـن هـم ولِـمَ قـدِموا.. قلبه الذي ازداد انقباضـًا فـي سـفره القصـير هـذا لا يكفّ عن الحديث عن هذا اللقاء.. مسح على ناصية جواده برفق بكفّ بارزة العروق، مخدوشة مجرّحة بجروحٍ جديدة، حاثّاً إيّاه على المسير بسرعة أكبر.. ربّما أحسّ الجواد بنداوة تسقط على رأسه منها... فرفق بسيّده وامتثل لأوامره مسرعًا، أمّا السيّد العابد الأسير فلـم يكـن يطيـق الانتظـار..، كـان جبينـه المصـفرّ يتصـبّب عرقاً ممّا رآه، وما سيراه، وممّا خلّفـه وراءه فـي الكوفـة، كـلّ ذلـك جعـل مـن الطريق يزداد بُعداً..