كَأَنِّي بِأَوْصَالِي تَقَطِّعُهَا عُسْلَانُ الْفَلَوَاتِ
ينعى نفسه بلوحةٍ ناطقة، ولِما حلَّ به في الطفِّ مطابقة، لوحة تُجسّد صورًا تنبض بالحياة، ما إن يسمعها المرء حتى يراها على صفحة مخيّلته (أوصالٌ مُقطّعة، ذئابٌ شرسة تنهش تلك الأوصال)، لوحةٌ تتحدّثُ بدقّة عالية عن وحشيّة الأعداء، مثلما تحكي بحروفٍ باكية مظلوميّة سيّد الشهداء(عليه السلام). يقول البعض: إنّها مصداقٌ مَن مصاديق علمه (عليه السلام) بالغيب؛ لاعتقاده أنَّ جميع الأئمّة المعصومين(عليهم السلام) يعلمون ذلك العلم، ومنهم شهيد كربلاء(عليه السلام)، ويعتقد الآخر أنَّها نسجُ توقّع سبط خاتم الأنبياء(صلى الله عليه وآله وسلم)، فيما يتطرّف الثالث كثيرًا متّهمًا الأول بالغلّو والشرك! ولترجيح أحد الأقوال لا بُدَّ من البحث عمّا إذا كان هناك مَن يعلم الغيب سوى الله(سبحانه وتعالى)؛ للوقوف على كون الاعتقاد به شركاً أم لا؟ أولًا، ومن ثمّ البحث في هل الأئمّة (عليهم السلام) ممَّن يعلمون الغيب أم لا؟ ثانيًا. أولًا: تحدّثت عن العلم بالغيب صنفان من الآيات المباركة: صنفٌ حصرته به (سبحانه وتعالى) منها قوله: (وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ)/ (الأنعام: 59)، وصنفٌ أخبرتنا عن إظهار الله(سبحانه وتعالى) على غيبه سواه، ومنها قوله(سبحانه وتعالى): (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ)/ (هود: 49). فأمّا الصنف الأول من الآيات فقد حصر علم الغيب به على نحو الأصالة والاستقلال وبالذات، أي أنّه (تعالى) يعلم الغيب بذاته دونما حاجةٍ إلى غيره أبدًا؛ لأنّه واجب الوجود، ومقتضى وجوب وجوده غناه عمّن سواه، على حين أثبت الثاني علم الغيب لغيره (سبحانه) على نحو التبعية له والوحي والتعلّم منه، قال السّيد الطباطبائي في ذيل حديثه عن هذين الصنفين من الآيات: «فهو(تعالى) يعلم الغيب بذاته، وغيره يعلمه بتعليم من الله»(1). ومن الجدير بالذكر أنَّ نظير تصنيف الآيات في علم الغيب هذا نجده في الروايات إلّا أنّنا أعرضنا عن ذكرها رومًا للاختصار(2)، ولا تعارض بينها هي الأخرى؛ لذات التفسير والبيان، وعليه لا يُعدُّ الاعتقاد بأنَّ سوى الله(سبحانه وتعالى) يعلم الغيب شركًا به (سبحانه وتعالى). ثانيًا: رُوي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض»(3)، فقد قرن (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل البيت(عليهم السلام) مع القرآن الكريم، وقال إنَّهما: «لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض»، وعدم الافتراق جاء مطلقًا، أي لا يمكن أن يفترقا ولو بخصوصيةٍ واحدة، ومن خصوصيات القرآن أنَّ فيه بيان كلّ شيء، قال (تعالى): (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ)/ (النحل الآية: 89)، وبناءً على ذلك فإنَّ أهل البيت (عليهم السلام) عندهم تبيان كلِّ شيء، وإلّا افترقوا عن القرآن الكريم، وقد أخبر(صلى الله عليه وآله وسلم) بامتناع ذلك. مثلما ورد التصريح بعلمهم (عليهم السلام) بالغيب في الروايات الشريفة، منها ما رُوي عن الإمام الرضا(عليه السلام) أنَّه ردَّ على عمرو بن هذّاب حينما نفى عنه علم الغيب متذرّعًا بأنَّ الغيب لا يعلمه إلّا اللّه(سبحانه وتعالى): «أَو ليس اللّه(سبحانه وتعالى) يقول: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ..)/ (الجن: 26، 27)، فرسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) عند اللّه مرتضى، ونحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه اللّه على ما شاء من غيبه، فعلّمنا ما كان وما يكون إلى يوم القيامة»(4). أضف إلى ذلك كثرة الشواهد التاريخية التي أثبتت أنَّ الناس قد رأوا تحقّقها بأمِّ أعينهم بعد إخبار الأئمة(عليهم السلام) عن بعض المغيّبات، ومنها قول الإمام الحسين(عليه السلام): «كَأَنِّي بِأَوْصَالِي تَقَطِّعُهَا عُسْلَانُ الْفَلَوَاتِ بَيْنَ النَّوَاوِيسِ وَكَرْبَلَاءَ فَيَمْلَأْنَ مِنِّي أَكْرَاشاً جُوفاً، وَأَجْرِبَةً سُغْباً»(5) ................................... (1) تفسير الميزان: ج٢٠، ص53. (2) حقيقة علم آل محمد(عليهم السلام) وجهاته: ج2، ص١٣٩. (3) سنن الترمذي: ج6، ص125. (4) العوالم، الإمام الرضا(عليه السلام): ج1، ص136. (5) الوثائق الرسميّة لثورة الإمام الحسين(عليه السلام): ج1، ص77.