رياض الزهراء العدد 160 أنوار قرآنية
المَنْهَجُ القُرآنيُّ فِي التَّعامُلِ مَعَ نَكسَةِ أُحُدٍ
يتعامل القرآن الكريم مع الأحداث بمنهج علميّ ونفسيّ دقيق لتربية الفرد المسلم، وتنشئته نشأة نفسيّة سليمة خاصّة في وقت الأزمات، ومنها نكسة غزوة أحد. ذُكرت معركة أحد في القرآن الكريم في سورة آل عمران في قوله تعالى: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)/ (آل عمران: 121)، والآية: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)/ (آل عمران: 179)، ولم يذكرها صراحة وإنّما تعرّض إليها بشيء من التفصيل في أسباب ونتائج، وعبّر عن تلك الغزوة بمنهج نفسي رائع في تسلية المسلمين، وتفريج همّهم وتوعيتهم بعد الهزيمة في أحد، واعتمد هذا المنهج القرآني على التوازن بين الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر، فلم يتعامل القرآن الكريم مع غزوة أحد على أنّها معركة عسكريّة، بل معركة للحياة بكلّ تفاصيلها الماديّة والمعنوية عن طريق النقاط الآتية: 1- دور المشاورة في الإسلام، واحترام رأي الأغلبية بعد اختلاف المسلمين في كيفيّة مواجهة العدوّ، وكان رأي الأغلبية الخروج من المدينة، بينما كان رأي النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وبعض الصحابة التحصّن فيها. 2- مواساة الله(سبحانه وتعالى) للمسلمين بعد تحوّل نصرهم المحقّق إلى هزيمة، ورفع معنوياتهم المنكسرة وتذكيرهم بنصرهم في بدر مع قلّة العدد والعدّة، جاء التأييد من السماء لهم بالملائكة، وأمرهم بطاعة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، فالنصر في المعارك لا بدّ من أن يكون بالأسباب الطبيعيّة من تخطيط وإعداد عدّة وعدد مهما كان وعد الله(سبحانه وتعالى) بالنصر لعباده المؤمنين. 3- حثّ المؤمنين على التقوى، وابتغاء الجنّة ونعيمها وَفق السنن الكونيّة العامّة في النظر والتفكّر في عاقبة الأمم الماضية للعِظة والاعتبار. 4- التربيت على أكتاف المسلمين، ومحو مرارة الهزيمة بقوله تعالى (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ)/ (آل عمران: آية139)، وتصبير المسلمين على الأذى النفسيّ والجسديّ وانعكاساته خاصّة بعد مقتل أبطالهم مثل الحمزة، ومُصعب بن عمير، وأنّ في كلّ محنة هناك مِنحة إلهيّة، فالهزيمة والحوادث الصعبة هي ميدان لتربية النفس، وإنّها محكّ لاختبار إيمانهم، واصطفاء الشهداء، فالأمّة التي لا تضحّي من أجل أهدافها ولا تعي أهدافها جيدًا، لا تستحقّ النصر. 5- محاربة الشائعات، فبعد إشاعة قتل الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، وتخلخل جيش المسلمين وفرار أغلبهم حصل الانقلاب على الأعقاب «وهو تعبير موحٍ يصوّر التراجع إلى الوراء والارتداد الواقعي، وهو أكثر إيحاءً وأقوى تصويراً من لفظة الردّة والرجوع والعودة، لأنّه بمعنى السير القهقرى»(١) وهنا تتبيّن خطورة الشائعات والأراجيف في الحروب العسكريّة وأثرها الكبير في نفس المقاتل، وهي بالضبط كالحرب الإعلاميّة الباردة في عصرنا الراهن. 6- رحمة الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في احتواء النادمين على تقصيرهم في المعركة، فالعفو من سِمات القيادة الربانيّة. وقد خُتمت الآيات التي تتحدّث عن غزوة أُحد بأهميّة الشهادة: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)/ (آل عمران: آية١٦٩) وما بعدها من الآيات و ذكر نعيم الشهداء في الآخرة، وقيل إنّ هذه الآيات لا تلحق بآيات غزوة أحد إلّا أنّ ما جاء عن الإمام الباقر(عليه السلام) وسار عليه كثير من المفسّرين: «إنّها تتناول قتلى بدر وأحد معاً»(٢). وعمومًا فإنّ القرآن الكريم يؤسّس لقاعدة مهمّة، وهي أنّ الجهاد في الميدان العسكريّ هو جزء من منظومة الجهاد الأكبر، وهو جهاد النفس وتهذيبها، التي هي المعركة الحقيقيّة والأساسيّة في الحياة، فالله(سبحانه وتعالى) لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، وأنّ الهزائم ليست مدعاة لليأس والتقهقر، بل العكس فرغم قسوة الهزيمة في النفس إلّا أنّها تُشكّل حافزاً قويّااً في الثبات على المبادئ، والالتزام بالشريعة، ومراجعة النفس وتصحيح الأخطاء وتقويم المسار. ............................... (١) الأمثل: ج٢، ص٧٢٠. (٢) التبيان: ج٣، ص 46.