ذِكرَياتي مَعَ الـطَّـفِّ

غدير خم حميد العارضي/ النجف الأشرف
عدد المشاهدات : 143

رغم اختلاف الظروف وتغايرها بين عام وعام، ورغم كثرة الأحداث وتعاقب المسرّات والآلام، تبقى على مرّ السنين ذكرى الطفّ هي الأبرز والأكثر إيلاماً، فهي الذكرى الخالدة التي تتجدّد في أرواحنا ناشرة مشاعر الحزن والولاء، وملوّنة الدنيا والأرجاء بلون العزاء، وكأنّها تريد أن توصل إلى إمامنا المهديّ -أرواحنا لتراب مقدمه الفداء- أنّ الكون يحزن لجدّكَ، ألا فاظهرْ لأخذ ثأره، وأنّه إن كان لجدّكَ عابس وزهير وحبيب، ففينا ألف حبيب وألف زهير وألف عابس ينتظرون قدومكَ، وقيام دولة عدلكَ. هذا الحزن الذي يستعمر قلبي قبيل حلول شهر محرّم الحرام بأيام إنّما هو ثمرة سنوات من تربية أسرتي لي، وحرصها الشديد على زيارة قبر السبط الشهيد(عليه السلام)، وإحياء ذكره، وتعظيم شعائره، وعيش أيّامه، واستذكار آلامه ومحنه وتضحيته وصبره. فمنذ الطفولة كانت أمّي تُلبسنا الأسود فنتساءل بحيرة: لماذا؟! لتشرح لنا حينها عن شهر قُتل فيه سبط الرسول(عليه السلام)، وأُثكلت فيه سيّدتنا البتول، وارتفعت فيه راية الإسلام، بعد أن تضمّخت بعطر الدماء الزكيّة لتلك الأنفس الأبيّة التي رفضت الذلّ والعبوديّة، وأنقذت الرسالة السماويّة من براثن الجاهليّة. هكذا كبرتُ وأنا أستشعر حال رقيّة والرباب، وأتخيّل مصرع القاسم والأكبر(عليه السلام)، وأتألم أكثر حين يُذكر مقتل الرضيع عليه وعلى أبيه آلاف التحيّة والسلام. لا أزال أتذكّر في كلّ عام مجالس العزاء التي كنّا نعقدها في بيتنا، وتلك التي أحضرها وأشاهدها، كانت توقد جمر الحزن في قلبي أكثر فأكثر، وتُشعرني بلوعة المصاب، فأدرك حينها أنّ كلّ مصائب الدنيا تهون أمام مصائب آل بيت الرسول(عليهم السلام). ولا أزال أتذكّر أيضاً سعي العائلة الدائم إلى المشاركة في إحياء الذكرى ولو في ما بيننا، عن طريق رفع الأعلام ونشر السواد للدلالة على الحزن، وكان ليوم عاشوراء أبلغ الألم فينا، إذ كنّا نحاول أن نستشعر حجم ما كابده الإمام الحسين(عليهم السلام) وآل بيته في يومها، وكان أكثر ما يفجعنا هو تخيّلنا لحال المولى صاحب الزمان(عجل الله تعالى فرجه الشريف) -أرواحنا لتراب مقدمه الفداءَ-، فكيف تُراه يُحيي ليلة الحادي عشر، وهل تراه يقدر على تحمّل ما جرى في ذلك اليوم على بيت النبوّة(عليهم السلام)؟. هكذا كانت عاشوراء وما تزال، تطلّ علينا كلّ عام بروح مختلفة، تكون أكثر شوقاً وألماً، وأعمق وعياً وحزناً، ترسم لنا الطريق الى قلب إمام العصر المهديّ المنتظر(عجل الله تعالى فرجه الشريف)، وتُشعرنا أنّنا يجب علينا وفاءً وتقديراً لدماء أهل بيت الرسالة أن لا نفعل شيئاً يؤلم قلب إمام زماننا(عجل الله تعالى فرجه الشريف) وقلوب آبائه(عليهم السلام)، وأن نكون بحقّ مثلما نقول دائماً وفي كلّ أيام العزاء: يا ليتنا كنّا معكم، فلا نفعل ما يُحزن قلب الحسين(عليه السلام)، ويُثير آلامه وجراحه، ولا نكون عبئًا ثقيلاً على قلب حفيده الآخذ بثأره، ونعدّ العدّة لنكون في ركابه يوم يخرج منادياً: (يا لثاراتِ الحسين(عليه السلام)).