رياض الزهراء العدد 160 لحياة أفضل
رِيشَةٌ بالفَلاةِ
أرواحٌ وألبابٌ وقلوب ونفوس.. كثيرةٌ هي المفردات التي نُعَبِّرُ بها عن وجودنا الباطني الخفي بإزاء وجودنا الظاهري المرئي، وكثيرًا ما نكتفي بكلمة «القلب» إشارةً إلى روح ذلك الوجود وما يحتويه من رسائل وأحاسيس. فالقلب بين حزن وفرح، وانقباض وانبساط تتقلّب أحواله، وكلّما ورد عليه وارد صرفه من وجه إلى وجه مصداقاً لقول رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): «إنّما سُمّي القلب من تقلّبه، إنّما مَثَل القلب مثل ريشة بالفلاة تعلّقت في أصل شجرة تقلّبها الريح ظهر البطن».(1) فالقلب معترك لمعسكريْن، معسكر الإلهام والخير، ومعسكر الوسوسة والشرّ، وكلّ منهما بدأ يلقّن القلب ويوبّخه ويصوّب سهامه إليه، تُرى هل له من أمره شيء؟ إنّ الله(سبحانه وتعالى) نسب إلى القلب في القرآن الكريم صفات الحسّ والإدراك، فهو يعي ويعقل، بل وحمّله إصرَ ارتكاب الذنوب في قوله(سبحانه وتعالى): (فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ)/(البقرة: 283)، وبشَّرَ أتقياء القلوب بالفوز والغفران إذ قال(سبحانه وتعالى): (إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)/(الشعراء: 89)، إذن فالأعمال أعمال الأرواح والأفئدة، والروح هي الأرض القابلة للفيض. ولا حصانة من تقلّب القلوب إلّا للمخلصين؛ فالمؤمن يخاف الإفلاس الروحي وسوء العاقبة، ويحاسب نفسه حين يضعف شوقه وتتثاقل همَّتُهُ. فالمطلوب من الإنسان أن يُكْثِر من الطاعات والتقوى، ويستثمر مواسم كرم الله(سبحانه وتعالى) في ليالي شهر رمضان مثلاً، فتمنح رقّة القلوب لعباد الله(سبحانه وتعالى) من دون استثناء. وحين يأخذه الحنين إلى دفء الدموع، ومناجاة السحر، يرحل إلى مراقد الأئمة زائرًا، راجيًا أن يحظى بنور ملكوت الشهداء. فيصل المؤمنُ إلى مرحلة لقاء الله لقاءً اختيارياً في حياته قبل مماته؛ في صلاته ودعائه ومناجاته، فهذا همٌّ مقدّسٌ وهدفٌ وطموحٌ، ولكنَّهُ أولُ خطوات الارتقاء في طريق السائرين المتعطّشين العاشقين إلى الله(سبحانه وتعالى). ومن فضل الله(سبحانه وتعالى) علينا أن جعل أنوار محمّدٍ(صلى الله عليه وآله وسلم) وآل محمّد(عليهم السلام) القدسيّة السماويّة، وسيلةً تتطهّر بها نفوسنا الآدميّة الدنيويّة، فشَرَط علينا في ذلك اتِّباعَ هَديهم وولايتهم، فلا قيمة للعلم والعمل إذا افترقا عنهم(عليهم السلام)؛ لما يمتلكون من قانون توازن في المعاملة ورقّة القلوب وخشوعها، وروح الإيمان والإخلاص، ولذّة الصلاة، والدعاء. فهلّا جزعنا لمصائبهم، وخُضْنا غمار قدسيّة المناجاة بشرف ألفاظهم. وهل من باكٍ كبكاء المظلوم وابن المظلوم؟ وابن قتيل العبرات، ومَنْ فاض قلبه مسدّداً بأنوار الوحي والنبوّة، ناطقًا بكلماتٍ هي دون كلمات الخالق وفوق كلمات المخلوقين بلاغةً وبراعةً وفصاحةً. فإمامنا عليّ بن الحسين زين العابدين(عليه السلام)، حمل ثقل النبوّة والإمامة مشبّعاً بالأسى والظلم، وقضى عمره يجود بنفسه، حزيناً باكيًا، تتردّد في صدره زفرات أدعية أصبحت منهجًا تعبّديًا وروحيًا وحياتيًا. ..................................... (1) ميزان الحكمة: ج8، ص305.