مَنْ صَاحِبُ الدَّعْوَةِ؟

لبنى مجيد عبّاس/ بغداد
عدد المشاهدات : 164

جهّزت نفسي لحضور أحد المجالس، لم أكن أستغرق لذلك إلّا دقائق، أغسل بها وجهي وأرتدي حجابي، وطريقاً أسلكه بلا تفكير يقودني فيه خفقان قلبي الشجيّ. عندما طُرق الباب خرس صوتي عن الإجابة.. طُرق مرة ثانية وثالثة.. جمعتُ أمري، وأسرعتُ إلى فتحه على خوف أن يعوقني مانع، إلّا أنّه تلاشى مذ رأيتُ وجهها البشوش، وقبل أن تنبس بكلمة قلتُ لها: لا تدخلي، انتظري سأحضر عباءتي، ولم أترك لها الخيار فقد خلت أنّها مدعوّة. وبينما كنتُ أحثّها على الإسراع شعر قلبي ببعض تردّدها وكأنّها فهمتْ ذلك وقرّرت البوح بخجل: "حاجّة؛ إنّي قليلاً ما أحضر المجالس؛ لأنّ فيها كثيراً من البدع وأنّي أحبّ أن ألتزم بسنّة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته(عليهم السلام) فقط"!!. قالت ذلك ونحن نقف أمام باب المجلس، إنّه اعتراف في اللاوقت، فقد استقبلتنا سيّدة الدار بكلّ حفاوة، وقد مال قلبي إلى مفارقتها ومساعدتها في الوقت نفسه. حتى هذه اللحظة كنتُ أفكّر لكنّي بعدها.. اتخذتُ مجلسي ووضعتُ كتبي جانباً، ولا أدري هل استعملتُ مكبّراً للصوت أم لا؟ فقد بدت لي الصالة المزدحمة كحلقة صغيرة تدور حولي وتدفعني إلى مركز العزاء بقوّة. ثم كانت المواقف تترى على نسق مُلهم، بدأتُ بمولد الحسين(عليه السلام) على غير عادة المجالس، وأبيات من الشعر تبارك للسيّدة الزهراء(عليها السلام) وتذكر جمال وليدها، ثمّ انقلب المجلس بشهقة أمّ! حضر والدها ليبارك وليدها، فيبتلّ نحر الرضيع بدموعه وجمت الوجوه وانقبضت قلوب الأمّهات مع سؤال الوالدة: لأيّ شيء تبكي يا رسول الله؟ وسؤال للحاضرين: أخبروا أمّه فقد تقطّع قلبها من الخوف.. أخبروا الزهراء.. توسّلوا إلى الرسول علّه يدفع عن الوليد ذلك. سلوا الحسن(عليه السلام) عن أخيه، لماذا قال: (لا يومَ كيومكَ يا أبا عبد الله)؟ لماذا ادّخر له الصبيّ القاسميّ ليكون فداءً له؟ عجّت الكلمات تعتمل في الصدور حسرة، تسمع بعضاً من وداع الحسين لولده الأكبر ثمّ الأصغر.. لبعض تمتمات أصحابه الشهداء بالسلام عليه، لبعض أنّات أطفاله من الظمأ، لنَوْح بعض النسوة من خلف الستار، وأُطفِئت الأنوار.. وساد الصمت الكلّ يترقّب الفاجعة شقّت ذلك الصمت كلمات الحوراء(عليها السلام): "اسعَ سعيكَ وناصب جهدكَ فوالله لن تمحو ذكرنا".. ثم اشرأبّت الأعناق لكلمات زين العابدين(عليه السلام): "محمّدٌ هذا جدّي أم جدّكَ؟" .. نَوْح مكتوم، حسرة ليس لبثّها من سبيل، عيون ترنو إلى طفّ بعيد، أكفّ تضرب الصدور على غير هدى، الكلّ ينتظر مطلع القصيدة.. وسؤال الإمام الصادق(عليه السلام) لأبي هارون المكفوف: "أنشدني كما تنشدون" ماذا يا مولاي، هل تعرف طريقتنا في الوجع من أجلكم؟ أتريد أن تسمعنا؟ أهذه المجالس التي قلتَ إنّك تحبّها وتدعو لنا بالرحمة لإحيائها؟ أماتتْ إحدى نسائكَ يا مولاي عند سماعها العزاء؟ وكيف لا تموت؟! نهضت النسوة على غير اتفاق منهنّ إشارةً إلى طلب عزاء كربلائيّ لكنّي آثرتُ الجلوس، بِتّ كأنّي أجمع بعض الأشياء، دُهشنَ ونزل بعضهنّ أرضاً قلتُ: ألا نجمعُ أشلاء الحسين أولاً؟ في ذلك اليوم نحن الحاضرات، وأنشدنَ ولطمنَ وبكينَ. لم ينتبه أحد إلى أنّ المجلس اليومي ذا الخمس عشرة دقيقة امتدّ لساعة، وأنّ تلك الضيفة الجديدة أصبحت رفيقة المجالس أينما أُقيمتْ منذ ذلك اليوم. ولماذا جاءت في تلك الساعة، إن لم تكن مدعوّة! ولم أدرِ أيضاً مَن أعدّ وكتب العزاء هذا، وأجراه على لساني! ومَن صاحب الدعوة إن كانت كذلك؟