رياض الزهراء العدد 159 لحياة أفضل
صِغَارٌ لَكنْ كِبَارٌ
الاستعدادات على قدم وساق للحفل المرتقب، فوليمة اليوم شهيّة وطال انتظارنا لها، كلّ المقومات جاهزة، الأرضية متّسخة، والطبق، وكذلك اليدين، الجميع في قاعة الانتظار بعد ركود لم نقم خلاله بالتهام هذه الوجبة الدسمة، بطل الحفلة طفل يبلغ من العمر ستّ سنوات، لم يقم بغسل يديه لساعات، والمكان داخل فمه دافئ ورطب، وهو مناخنا المفضّل، ونشاط التسلّح لدينا جاهز للهجوم مع أول قضمة منه للحلويات. فالسكّر هو مَن يجعل حياتنا البائسة تستحقّ العيش، مجتمع مزدهر بالكائنات الدقيقة في بيئته المفضلة وعلى التلال البيضاء الصلدة المسمّاة بالأسنان لا أحد غيرنا يسمع صوت معاول الهدم، صوت تطربنا موسيقاه، وفرحة تزداد مع إرسال العصب إشارته إلى الدماغ ببدء الألم، ساعتئذ يحين وقت الانتصار، ولكن هل يتوقّف العمل؟ قد يبدو خطابنا هذا شفّافاً للبعض ممّن لا يلحظ مقدار السوء الذي نضمره له، إنّها مثل عمليّة توارينا عن العيون المجرّدة. فمنذ أن خُلقنا ونحن نميّز أصدقاءنا من أعدائنا والروائح الكريهة التي نُصدرها لأصدقائنا هي كريهة أيضاً لأعدائنا حين لا يهتمّون بنظافة الفم، لكن الفم ليس مأوانا الوحيد، ففرقنا موزّعة في أنحاء أخرى، كلٌّ يمارس نشاطه حال توافر العوامل الملائمة من قاذورات وتلوّث وغيرها، غير أنّ تلك التي تتمكّن من النفاذ إلى أوعية الجسم هي الأخطر من بيننا، فالأمراض حليفنا الدائم القويّ، ومَن يتسلّل منّا إليها فهو شجاع بدرجة ميكروب! إلّا إذا انتهى المطاف في غرفة إعدامه، غرفة طبيب الأسنان. قد تأتينا نيران صديقة أحياناً من أشباهنا، ممّن يعيشون داخل الجسم ولا يضرّونه، كالبكتريا المفيدة، أخذنا الحديث بعيداً عن أجواء الحفل المبهجة التي قلّ نظيرها، وشعورنا حين غطّت السكّريات طبقات الأسنان كشعور الذي ينتظر منكم غيثاً بعد جدب، نتجلبب بالحلوى ونستطمع المزيد من الطفل الأكول ونسترزق على ما يتبقّى منها في أسنانه من فتات، هو ليس فتاتاً لنا، بل وليمة بحسب العرف المجهريّ، وأمانينا هي أن لا يستمع إلى نداءات والدته، ويلتزم بالنظافة، فالنظافة مريحة للإنسان لكنّها عمليّة إبادة جماعيّة لنا، وبالفعل تمّت بعد أن استجاب الطفل إلى توبيخ أمّه. كلّ منّا سيذهب إلى منفاه الأخير بعد عمليّة غسل الأسنان، ولا نعلم متى يعاود الفريق حِراكه من جديد، فليست قصة مؤثرة بنهاية غير سارّة، وليست سيرة ذاتية نعرضها نحن الجراثيم بمثابة مقتطف من اعتياشنا على بني البشر بقدر ما هي وخزة من وعي، وإبرة من يقظة يستشعرها الكثير ممّن ليس لديهم التفات إلى وجودنا في حياته، الذي لو تحقّق بالفعل لم يستطيعوا إزالتنا عن أماكننا بصورة كاملة مع بقاء تشبّثنا من أجل البقاء، حمداً للخالق.. على عدم امتلاك البشر عيوناً مجهريّة.