رياض الزهراء العدد 159 لحياة أفضل
كَيفَ أَقولُ لَها؟
أحببتكَ، لكن منذ متى؟ لا تضحك إن قلتُ لكَ مذ فتحتُ عينيّ على الدنيا، ومع أول دمية كنتُ أرعاها في حجري وأنا أتقمّص دور الأمّ لأجاري ما تفعله والدتي معي ومع إخوتي، راودني الحلم بكَ.. لا أخجل الآن من أن أقول، كانت أمنيّتي الخجولة في أولى سني مراهقتي أن أقوم يومًا ما بولادتكَ.. ثم كبرت الأمنيّة في قلبي وأَسَرتني فكرة وجودكَ، حتى تغاضيتُ عن أمور كثيرة تحرص عليها الأخريات من متطلبات الزواج، بحجّة هذا ما نصحتني به الجدّة: "لعلّه تحصلين على ولد يفيدكِ"... نضجتُ وأصبحتُ أحلم بكَ لعوالم أخرى، أن يكون لكَ أثر في الحياة الدنيا تُحمد عليه في الآخرة، وصارت معرفتي تُقارِن من أجلكَ، أيكون هكذا أفضل، أو أن يكون عالمًا أو شهيدًا، أو خادمًا حسينيًا أو مؤلفًا؟ رغم أنّ عمري كان يتّسع لأفكّر بنفسي، لكنّي نسيت... نسيتُ واخترتُ أن أربّيكَ لتكون مُواليًا؛ لأنّي لم أجد ما هو أنفع من الولاية لآل محمّد(عليهم السلام).. وأن تكون حسينيًا؛ لأنّي لم أجد أسعد من خُدّام الحسين(عليه السلام).. وأن تكون متواضعًا؛ لأنّي لم أعرف عاقبة أرفع من التواضع لله(سبحانه وتعالى).. تزوّجت أخيرًا، وشاركتني نبضات قلبي انتظاركَ حتى يوم البشرى... لا أزال أذكر أنّه كان يومًا ممطرًا قد انقلبت فيه الأحوال الجويّة بشكل مفاجئ، تاركةً الشوارع خالية من المارّة، إلّا أنا ووالدكَ؛ فقد كنّا شغوفين إلى درجة الخروج بحثًا عن مختبر طبّي؛ للتأكّد من الحمل رغم كلّ الصعاب، فكلانا يترقّب هذا الموعد منذ أمد بعيد.. وهكذا استوطنتَ أحشائي، وأنا أبتسم رغم المشقّة كلّما أتخيلكَ مبتسمًا ترفل بالأمان.. كيف لا وأنا لا أجلس جلسة أو أنام، أو آكل أكلة إلّا إذا ضمنتُ أنّها لا تؤذيكَ. حتى بلغتُ مبلغ الوضع فصرتُ لا أستطيع النوم والأكل، فقد شاء الله(سبحانه وتعالى) أن أعاني، ربّما لأتقبّل فكرة انفصالكَ عنّي، ها أنتَ ترى النور أخيرًا.. يحتفل الأهل، ويفرح الأصدقاء، ثمّ يمضون إلى شؤونهم، وتبقى أنتَ أمامي زهرة رقيقة تسلبني النوم والراحة، وتعرقل عملي وتحدّد حركتي، وأنا ممتنّة لكَ، وأنا أراكَ تكبر، وتكبر، وتكبر.. أتذكّرُ بسمتكَ الأولى، عثرتكَ الأولى، جرحكَ الأول حينما كنتَ تلعب، أتذكّر أنّي كنتُ أنظر إليكَ من بعيد كي تتعلّم حماية نفسكَ وتتحمّل مسؤوليتكَ، لكنّي كنتُ لا أريد أن تكبر إلى درجة الابتعاد عنّي... ثمّ أصبح لكَ غرفة منفصلة، فتقبّلتُ الأمر على مضض، ثمّ صرتَ تذهب إلى المدرسة وأنا أحتار كثيرًا، كنتُ أودّ أن يخرج قلبي ليظلّلكَ كغيمة وفيّة تُعيدكَ إليّ سالمًا، ثم صرتَ تخرج لأمور لا أعرفها، أو أعرفها ولا اقتنع بها إلّا عندما أرى رغبتكَ الملحّة تكاد تقفز من عينيكَ، هكذا مرّت السنوات.. واليوم تقف أمامي شابًا وسيمًا مثلما حلمتُ بكَ، لتختار زوجة وتحلم بأبناء وتسعى إلى الحصول على عمل.. صرتُ مع كبر سنّي أتقبّل ذلك وأفخر به، لكنّي لا أزال أريدكَ قريبًا إلى حضني، أحلم بتقبيل يدكَ الرقيقة التي كبرتْ بين يديّ..والآن قل لي يا ولدي، كيف أقول كلّ ذلك لزوجتكَ؟ كيف أقول لها أن تتحمّل كلّ ما يبدر منّي من دون قصد، عصبيّتي لعجزي، تدخّلي بسبب فراغ وقتي، دلالي لمللي من أدويتي، فأنا رغم كلّ ذاك لا أحبّ غيركَ، ألَا يسعنا هذا الحبّ معاً أنا وإياها؟.. العجائز يا ولدي لا يملكون إلّا القليل من الوقت لمرافقة مَن يحبّون، وقلوبهنّ لا يُذبلها التقدّم في السنّ، بل الجفاء، فليتني أموتُ في حجركَ مبتسمةً.