الوَسَطِيَّةُ وَالاعتِدَالُ في القُرآنِ الكَرِيمِ

عبير المنظور/ البصرة
عدد المشاهدات : 4933

أكّد القرآن الكريم في العديد من الآيات على مبدأ الوسطية والاعتدال في جميع نواحي الحياة، وهو بهذا يؤسّس لمنهج أمة، وحياة يتحقّق فيها التوازن القيمي والعقائدي والأخلاقي والسلوكي بعيداً عن الإفراط والتفريط. والوسط في اللغة: اسم لما بين طرفي الشيء(1). ومن أهمّ ما جاء في القرآن الكريم عن الوسطية وصفه تعالى لأمّة الإسلام: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا..)/(البقرة، الآية: 143)، قال الزّجاج: "فيه قولان، قال بعضهم: أي عدلاً وقال بعضهم: أي أخياراً..."(2)، وجاء في تفسير هذه الآية: (في حالة اعتدال لا يشوبها إفراط ولا تفريط في كلّ جوانب حياتها)(3)، وذكر السيّد الطباطبائي تفسيراً لطيفاً لوسطية الأمة بعيداً عن الإفراط والتفريط: ففئة تهتمّ بالروح على حساب الجسد كالرهبانية عند النصارى، وأخرى تهتمّ بالملذات الجسديّة وشهواتها ولا تهتمّ للمعنويات، فقال: "إنّ الإنسان مجموع الروح والجسم لا روح محضاً، ولا جسم محضاً ومحتاج في حياته السعيدة إلى جمع كِلا الكمالين والسعادتين المادية والمعنوية فهذه الأمّة هي الوسط العدل الذي يقاس به ويوزن كلّ من طرفي الإفراط والتفريط"(4). وفي تفاصيل هذه الوسطية ذكر القرآن الكريم العديد من الشواهد كقوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا...)/(القصص، الآية: 77)، وهنا تعني الاعتدال في العبادات والموازنة بين حاجات الروح والجسد. مثلما تعرّض القرآن الكريم إلى الوسطية في مسألة الإنفاق في أكثر من آية كقوله تعالى: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا)/(الإسراء، الآية: 29)، وقوله(سبحانه وتعالى): (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا)/(الفرقان، الآية: 67)، وقد بيّن في آيات عديدة مضارّ الإسراف وعاقبة المسرفين لتتربّى الأمة على التوازن والاعتدال في الجانب الاقتصادي. وفي قوله تعالى: (...وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا)/(الإسراء، الآية: 110)، إشارة واضحة إلى الوسطية في الإسلام، حتى في صوت العبد في صلاته، وهذا السبيل هو الهدف بعينه الذي ترمي إليه الشريعة من أصغر الأمور إلى أكبرها لتثبيت هذا المنهج المنطقيّ والفطريّ، فلا إفراط ولا تفريط، ولكن أمر بين أمرين. وتتبيّن أهمية هذا المنهج المعتدل في الإسلام في حفظ كيان المجتمع ووحدته، والسيطرة على جميع الانحرافات والإيديولوجيات الغريبة عنه، واحتواء تأثيرها في نطاق ضيّق من دون التأثير في المنظومة الإسلامية، وبخلافه نرى تصدّع الأمة واختلافها، ومن ثمّ تشتّتها وتفرّقها، وهو ما يريده أعداء الإسلام. وما الفتن التي نراها اليوم محدقة بالأمّة الإسلامية إلّا نتيجة الإفراط والتفريط في جميع جوانب الحياة، فنجد مَن يفرّط بالقيم والمبادئ الأخلاقية والإنسانية والعقائدية، ويضربها عرض الجدار ليصبح كلّ شيء متاحاً من دون مراعاة لحقوق أو واجبات فرديّة أو جماعيّة. وعلى الصعيد الآخر نجد الإفراط في التشدّد في الأحكام الذي أنتج بدوره الفكر التكفيريّ الذي لا يخفى تأثيره في تفكيك وحدة الأمة الإسلامية وإضعافها، إضافةً إلى تشويه صورة الإسلام في المجتمع الدوليّ في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى إبراز معالم رحمة ديننا الحنيف وسموّ مبادئه ورفعة أحكامه. ..................................... (1) تاج العروس، ج10، ص444. (2) المصدر نفسه، ج10، ص444. (3) الأمثل، ج1، ص406. (4) الميزان، ج1، ص186.