رياض الزهراء العدد 158 الحشد المقدس
رِسَالَةُ جَرِيحٍ
بذل الدماء فداءً، وضحّى بكلّ شيء متاح؛ ليعرج إلى قِمَم الكمال والفلاح، صان وجه الأرض أبياً وصرخ من وهج الشوق: إلهي خذ منّي نجيعي، وتقبّل نَزْف الجراح، ها هو فيض دمي يُخبركَ أنّني خُضّبتُ فيكَ، ها هو جسدي يمتلئ بالشظايا وكلّي شوق إليكَ، فأنا الجريح مجاهد غيور ثَبَتُّ في الميدان، وكلّ همّي أن أرضيكَ، كنتُ أرقب النصر أو الشهادة لألتقيكَ، لكنّني عدتُ إلى بيتي جريحاً قبل أن أبلغ المرام، وحملتُ جراحاتي وساماً، ويا له من وسام، واصلتُ دربي وجعلتُ من ألمي زاداً لأخوتي المجاهدين الكرام، وانطلقَتْ من فم جِراحي النازفة عبارات التشجيع والدعم للمرابطين هناك على الثغور، لأحملهم على الثبات حتى تحقّق النصر أو الفوز بالشهادة والحبور. فمَن قال إنّي لا أستطيع حمل السلاح؟ وهل يقتصر الجهاد على التواجد في ميادين الصراع والكفاح؟! أبداً، إنّه يتجلّى في كلّ زاوية نستطيع عن طريقها تعجيل بشائر النصر وتحقيق النجاح، فرسالتنا مستمرّة دائمة، وإن بقينا حبيسي دُورنا أو كراسينا المتحرّكة، رسالتنا ووعينا وحبّنا لديننا وإلهنا وإسلامنا ومقدّساتنا، وهذه لا تعرف الحبس ولا القيود، بل تتحرّك على الدوام داعية لتحمّل المسؤولية والتفاني في سبيل رضا المعبود، والتمهيد لدولة الحقّ المرتقبة لإمامنا الموعود(عجل الله تعالى فرجه الشريف). نعم قد نخسر أبصارنا، أو نُبتلى بفقد أحد أطرافنا، ولن نبتئس لما قدّمنا لثقتنا بما وعد ربّنا، أولم يقل نبيّنا محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم): "مَن جُرِح في سبيل الله جاء يوم القيامة ريحه كريح المسك"(1). نحن نعلم بكلّ هذا ولا نعترض على ما اختاره الله تعالى لنا بحكمته، وإن أمضينا بقية عمرنا في عجز وألم وعناء، فنحن نعلم أنّ الطريق لا يزال مفتوحاً أمامنا، وأبواب الارتقاء مشرّعة بوجوهنا، فلطالما كانت لصورنا وجراحنا وعزمنا أبلغ الأثر في نفوس إخوتنا الأبطال، فنحن من يشدّ من عزائمهم، ويشحذ هممهم، ويرفع معنوياتهم، ويمدّهم بالقوّة والصبر حتى الظفر. لقد جعلنا من جراحنا لوحة متحرّكة تجوب الأزقة والأحياء، لتعبّر عن الصمود والتحدّي والإباء، نعم نحن على فراش مرضنا أو على كراسينا المتحرّكة صورة تنبض بالولاء لأهل البيت(عليهم السلام)، وتعبّر عن السير الصادق على دربهم النيّر الرافض للكفر والفساد والظلام، ويكفينا فخراً أنّ لنا في كربلاء قدوة ونبراساً ومثلاً، ذلك هو مولانا قمر بني هاشم العبّاس(عليه السلام) الذي قُطعت يداه، وحجب السهم والدم النور من عينيه، وامتلأ جسده بالجراح؛ ولكنّه لم ينسَ رسالته، ولم يفرّط بقضيّته، ولم يتوانَ لحظة واحدة عن إكمال دوره وإتمام مسيرته، هو في جراحه وكفاحه قدوتنا، وسيبقى مُلهمنا وقائدنا الذي نرنو إليه، حتى ينتهي العمر فنفوز بشفاعته، ونرتشف من حوض الكوثر كأساً من يد أبيه سلام الله عليه. .............................. (1) ميزان الحكمة: ج5، ص124.