رياض الزهراء العدد 158 أروقة جامعية
الحَلْقَةُ السَادِسَةُ والثَّلاثُون
مَا تُخَبِئُهُ لَنا الأروِقَةُ هُنَاكَ.. عن التفاصيل التي تصنع ذاكرة الحلم، بين سندانه.. والواقع.. نونُكِ.. كنتُ أقفُ على عتبات المدخل الرئيسي للمستشفى الذي أتدرّب فيه بعد جولةٍ مع الطبيبة المشرفة علينا: مرّت من أمامي إحدى الزميلات فلوّحت لي، ولوّحتُ لها من بعيد، ثمّ تذكّرتُ.. في الفحص السريري الشامل وقبل أن نفحص العضو الذي يعاني من المشكلة، نمرّ على العيون وتجويف الفمّ والرقبة، وبعدها على الأيدي ثمّ الأرجل.. ثمّ دقّات القلب ومعدّل التنفّس، ودرجة الحرارة وأمور أخرى تُعطينا انطباعًا عامًّا عن حالة الجسم.. لا أدري لماذا في هذا اليوم بالتحديد حين كنتُ أفحص يد المرأة الثمانينية، غاصت عيناي في الخطوط التي فيها.. شعرتُ للحظة أنّ قلبي كفيف يمرّ بين تلك الخطوط، يستدلّ على العمر الذي مرّ عليها.. الذي عاشته بقسوة وأخرى بحبّ.. يمشيان بين ثنيات التجاعيد، حيث مكان اختباء القصص.. مكان الدفء والجفاف.. مكان التعب والراحة، كأنّ مسار القلب يتبع تلك الخارطة المشحونة بالدروب، وكأنّ ذلك القلب شمعة صغيرة لابدّ من أن أداريها أمام البرد والريح والأيام.. طبعًا، عيني لم تكمل تأمّلها، لكن حدث لها (توقّف مؤقّت) (pending)؛ لأنّ فحص اليد لا يستلزم ذلك الوقت كلّه.. وحين جاء وقت الراحة.. ظلّت حكاية الأيادي عالقة في ذهني.. عوالمها..عروقها.. وخريطة الأسرار التي تنام فيها، التي ربّما تنتظر أحدًا يكتشفها، تاريخ عيش قبلاً، وطرقٌ جديدة لا يدري المرء أيّاً منها سيمشيه.. تأملتُ يدي.. كم قطعت من دروبها؟ وإلى أيّ درجة اتبعت خرائطها؟ متى تكاثرت الخطوط فيها؟ متى سـأكتشفها؟ هل كلّ شي فيها داخل حدود المادة؟ هل هذا ملخّص حياتي؟ وعمري؟ هل هناك أشياء ستكون خارج حدود الوقت؟ والمسافة؟ أشياء تصنعها خيارات جديدة..؟ هنا أثر جرح قديم وعنيد فيها.. لكن يدي صارت أعند، وأخرجت من آثار هذه الجروح خطوطًا جديدة.. تقول: نستطيع أن نتجاوز ونمشي، ونقطع مسافات جديدة، بنت عوالم وهندست مدينة جديدة، وماذا عن الجرح؟ لقد ظلّ مجرد نصب تذكاريّ في واحدة من أزقتها.. في راحة هذه اليد.. أسباب المقاومة كلّها تصطفّ.. أساسًا لو لم تكن هناك أسباب فكيف للمرء أن يقاوم؟ جرّب أن تأخذ من المرء أسبابه، إنّه سينتهي.. اليد، حكاية المواساة.. أداة التربيت.. منبت الأصابع.. والمناديل التي تمسح الدموع.. وأماكن الاشتباك والاكتمال.. عن طريقها تعرف جودة الفرح.. حرارة الدفء.. اليد عمر.. ونضج، وتجربة منحوتة.. المصافحة الأولى الشغوفة بالاكتشاف.. والنقطة الأخيرة المطمئنّة في نهاية السطر التي تشبه تلويحة الوداع! انتهت السنة التدريبيّة الأولى في المستشفى.. يُتبع بـ عُمر...