رياض الزهراء العدد 157 منكم وإليكم
أخبِرُوا أُمّــي
مرّت السنوات تِباعاً من دون تردّد وهي ترسم على وجوهنا آثارها بإتقان، فإذا بأطفال الأمس آباء وأمهات بل أجداد وجدّات؛ لم تنتظر حتى يجفّ ندى الطفولة فوق أزهار أرواحنا؛ فلا عجبَ أن يبقى شوقنا إلى عطر الوالدة متوقّداً حتى هذا اليوم، حتى بعد أن كبرنا وعرفنا أنّ أمّنا لم تكن تضع عطرًا، وأنّ عبيرها حتى هذا اليوم لا يشبه عطر أيّ أمّ أخرى.. تغيّرت من حولنا أشياء كثيرة، ملامح أولادنا شابها الشيء الكثير ممّا لم نكن نألفه وبالكاد صرنا نواكب بيئتهم، ثم كبر أحفادنا وكأنّهم يحملون في جيناتهم عصارة تجاربنا، فترى سنواتهم الأولى تواكب لغة حواركَ وأنتَ ابن الخمسين، لا أعرف إلى أين سيصل العالم؟ ولكن الذي يُبهرني صوت الباب وهو يُفتح بعجالة بأيديهم الغضّة بعد يوم دراسيّ ممتع وهم يتوافدون بوجوه متعبة وأعين تبحث في كلّ أركان المنزل، وسؤال تاريخيّ أسمعه منذ عقود: "أين أمّي؟" وابتسامة عريضة وأذرع تضع حمل حقائبها باسترخاء محبّب أمام أنظار تلك الأمّ. دعوني أنتقل إلى الجزء المؤلم من القصة: حين يتحوّل ملجأ الحنان ومرفأ الحيران إلى مجرّد هيكل أمّ تدور وتدور طوال الوقت لتقوم بأعمال خارج المنزل وأعمال داخل المنزل، وتتواصل على مواقع التواصل، ثمّ تُلقي بما تبقّى منها متعبًا على أمل الراحة ليوم جديد من دون أن تنتبه على تلك العيون الصغيرة التي تتابعها من قريب ومن بعيد على أمل حضن دافئ ونظرة تخصّها بالحبّ، وصوت ينادي من دون أن يكون لطلب أداء عمل ما؛ بل لمجرّد الشوق لا غير. أرجوكِ سيّدتي بعد قراءة هذه الأسطر أغلقي هاتفكِ الجوّال وأجّلي عمل اليوم إلى غد، وامنحي نفسكِ عطرًا من الحبّ لا ينساه صغيركِ حتى لو بلغ السبعين، اجلسي بينهم، قبّلي أكفّهم، استمتعي بنظراتهم المشتاقة؛ فهي تريد أن تبوح بالكثير وتريد أن تقول لكِ: يا أمّي إنّ عطر حضنكِ لا يوجد في مكان آخر.