رياض الزهراء العدد 157 أروقة جامعية
الحَلْقَةُ الخامِسَةُ والثَّلاثُون
مَا تُخَبِئُهُ لَنا الأروِقَةُ هُنَاكَ.. عن التفاصيل التي تصنع ذاكرة الحلم، بين سندانه.. والواقع.. نونُكِ.. انتهت مدّة التدريب في تخصّص طبّ الأسرة والمجتمع، واليوم هو اليوم الأوّل في الطبّ النفسيّ.. توزّعنا على مكاتب الأطباء النفسيّين في العيادة.. وأول مريضة دخلت جعلتني قبالة نفسي أتساءل: ما معنى أن تشعري بأنّ ذاكرتكِ تأكل عمركِ؟ تأكل أشكال الوجوه التي تحبّين؟ تجعلكِ تنكرينهم بل تنكرين حتى نفسكِ؟ تجعلكِ فارغة من كلّ شيء.. حتى منكِ؟ كأنّ رأسكِ يتساقط؟ كيف لكِ أن تمسكي الذكريات حينها؟ الأحداث؟ الوجوه؟ أو أن تمسكي نفسكِ؟ تدخل المرأة الستينية إلى غرفة الطبيب، الأرضُ تستقبل قدميها بـخطواتٍ قصيرة، بطيئة.. ترتدي عباءةً سوداء وبرقعًا بتحديدٍ ذهبي، يكشف عن عينين محاطتين بـجلدٍ مليءٍ بـالأحداث، مجعّدٍ كـأرضٍ بعد معارك عديدة، تجلس على الكرسيّ الموجود على يمين طاولة الطبيب، تضع كفًّا في أخرى، كـأنّها تقبضُ على نفسها.. معها ابنتها، تجلسُ على الكرسيّ المقابل للطبيب من الجهة اليسرى.. يسألها الطبيب: ماذا حدث؟ تجيب الفتاة: أمّي تنسى كثيرًا..(كلّنا ننسى، ألا يركن الهانئون أصلاً في النسيان؟ أو هكذا نظنّ! كنتُ أقول في نفسي لـنفسي..)، خرجتْ بالأمس، وبحثنا عنها لساعتين حتى وجدناها.. وهي المرّةُ الثالثة! العجيب في الأمر يا دكتور أنّها تحتاجُ إلى مَن يسندها حتى تمشي وهي في داخل البيت، فكيف جاءتها القوة لـتمشي ساعتين متواصلتين على قدميها المتعبتين من دون أن تتكئ على أحد أو على شيء! قال الطبيب: اسألوها.. قلتُ: يا خالة، كم عدد أولادكِ؟ الخالة: أربعة.. قلتُ: هل تستطيعين أن تخبريني بـأسمائهم.. الخالة: اسمين فقط.. قلتُ: حسنًا، مَن أكبرهم؟ الخالة: صمت! الابنة: أمي.. مَن أنا؟ الخالة: فلانة.. وأسئلةٌ كثيرة، تقود إلى إجابةٍ واحدة.. إنّها مصابةٌ بالـ (Dementia) (الخرف).. لا شيء يمنع هذه الحالة من التفاقم.. سـتستمرّ في التهام رأسها.. حتى ينفصل حسّها عن حركتها.. ماذا عن الأدوية أيها الطبيب؟ -: لن يكون لها تأثيرٌ علاجيّ.. بل ستبطئ من تطوّر الحالة فقط.. كم هو صعبٌ أن تجرّبي الكثير من الأسئلة حتى تفتحي أفقًا مختلفًا لكن من دون جدوى، أن تكون الإجابة ثابتةً رغم تغييركِ لـزاوية نظركِ إليها.. كم هو صعبٌ وقوفكِ أمام طرقٍ كثيرة متشعّبة.. وأنتِ لا تملكين سوى قدمين.. والأصعب أن يمضي وقتٌ طويلٌ حتى تختاري طريقًا من بينها ثم تكتشفي أنّها كلّها تؤدّي إلى نهايةٍ واحدة! كنتُ أقبضُ على قلبي أو كان هو يقبضني! لا أدري.. ولكنّني أدركتُ جيدًا أنّ بعض الأسفار لا عودة منها. يتبع بعمر..