رياض الزهراء العدد 81 أنوار قرآنية
شَذَراتُ الآيات_18
(وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا)/ (النور:33).كلمة (وَلْيَسْتَعْفِفِ) هي حصول حالة للنفس تمتنع بها عن غلبة الشهوة، وتعني ليجتهد في العفة، وقمع الشهوة، وصون النفس عن الزنا والحرام بالرياضة والتفكر في ملكوت السموات والأرض، والذكر، والبعد عن كلّ مهيّج من رؤية وغيرها.(1) وتعني عبارة (الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا) هم الذين ليس لهم قدرة على المهر والنفقة، ومعنى الآية: الأمر بالتعفف لمَن لا يقدر على النكاح والتحرز من الوقوع في الزنا حتى يغنيه الله من فضله..(2)، فيجب عليه تجنب التلوث والفساد في هذه المرحلة المتأزمة، ومواجهة الامتحان الإلهي حيث لا يقبل أي عذر منه, فلابدّ من أن يمتحن قوة إيمانه وشخصيته وتقواه في هذه المرحلة. ويهتم الإسلام كعادته بالعبيد الضعفاء اجتماعياً من أجل تيسير حريتهم، فيتناول القرآن الكريم مسألة المكاتبة وهي تعهد الغلام بتوقيعه اتفاقاً ينص على القيام بعمل معين أو دفع مبلغ مقابل عتقه، فيقول: (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا). إن الإسلام وضع برنامجاً للتحرر التدريجي للعبيد، واستفاد من كلّ فرصة لعتقهم، فكانت قضية (المكاتبة) حكماً يجب اتّباعه، وتشتق كلمة (المكاتبة) من الكتابة، وهي مشتقة من كتب بمعنى جمع الحروف والكلمات، وبما أن العقد بين المولى والغلام يتم بكتابة مواد يُتفق عليها، فلذلك سميت (مكاتبة)، وبموجب هذا العقد يلتزم الغلام بإعداد مبلغ من المال من عمل حرّ ليدفع أقساطاً لسيده، فإذا دفع آخر قسط نال حريته، وأمر الإسلام أن لا تتجاوز هذه الأقساط ثمن العبد نفسه، وإذا عجز العبد لسبب ما عن دفع الأقساط المترتبة بذمته وجب أن يسدد من بيت المال أو من الزكاة ليعتق. ويتضح من ذلك كيف يجعل هذا المشروع عتق العبيد يسيراً ليعيشوا أحراراً مستقلين حتى في مدة إعداد الأقساط، كما أن أسيادهم لا يتضررون بذلك فلا يدفعهم هذا إلى إلحاق الأذى بعبيدهم..(3) أمّا عبارة (إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) فمعناه إذا بلغوا من النمو الجسمي مما يؤهلهم لإبرام العقد وإنجاز ما تعهدوا به فكاتبوهم, أمّا إذا لم يتمكنوا من الوفاء بما عاهدوا عليه فلا ينبغي مكاتبتهم وعتقهم؛ لأن في ذلك ضرراً عليهم وعلى المجتمع، فيجب تأجيل ذلك إلى وقت آخر يؤهلهم من حيث القدرة والصلاحية من أجل أن لا يقعون في مشاكل لا يتمكنون من حلّها، ويعجزون عن تسديد ما في ذمتهم, ثم يدعا القرآن إلى مساعدتهم فيقول (عز وجل): (وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ)، هناك اختلاف حول هذا المال بين المفسرين، فقال عدد كبير منهم: إنه حصة من الزكاة مثلما نصت عليه الآية (60) من سورة التوبة؛ ليتمكن العبيد من الوفاء بدينهم والحصول على حريتهم، وقال آخرون: على مالك الغلام أن يتبرع بقسم من أقساط الدين أو يساعده بإعادته إليه؛ ليتمكن من الحياة الحرة، كما يُحتمل أن المقصود هنا منح العبيد مبلغاً للإنفاق أو جعله رأس مال لهم، ليتمكنوا من التجارة والعمل وإدارة شؤونهم الخاصة، ودفع الأقساط التي بذمتهم، وطبيعي أن التفاسير الثلاثة غير متناقضة، ويمكن للآية السابقة أن تستوعبها جميعاً. وتعرّضت هذه الآية إلى أحد الأعمال المشينة التي كان يمارسها عبّاد الدنيا إزاء جواريهم، فقالت: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا)، تكشف هذه الآية عن مدى الرذيلة والانحطاط الخلقي الذي كان سائداً في عهد الجاهلية وقد واصل بعضهم أعماله المشينة هذه حتى بعد ظهور الإسلام، عندها نزلت هذه الآية ونهت عن هذه الأعمال. قال بعض المفسرين في سبب نزولها: إن عبد الله بن أبي كان يملك ست جواري يجبرهنّ على البغاء، وعندما نزلت آيات قرآنية تنهى عن ذلك جاءت الجواري إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وعرضن شكواهنّ، فنزلت الآية أعلاه، ونهت عن ارتكاب هذا الإثم. ...................................... (1) الحياة السعيدة: ص182. (2) تفسير الميزان: ج15، ص113. (3) تفسير الأمثل: ج11، ص62-67.