البِنيَةُ الإِيقَاعِيَّةُ في القُرآنِ الكَريمِ

عبير المنظور/ البصرة
عدد المشاهدات : 661

للإيقاع والجمال الصوتي في القرآن سحر عميق، وهو ضَربٌ من ضروب إعجازه المتعدّدة. وللإيقاع تعريفات عديدة، منها: أنّه (صيغة معيّنة من النَظم يصوغها صانع الإيقاع بعمليّة أساسها هيكلة وهندسة تتألّف وفقها عناصرها المادية في هيئة متماسكة تتعلّق أجزاؤها بعضها ببعض وبعضها بالكلّ).(١) أي بكلمة أبسط: إنّه تتابع أصوات أو حركات بانتظام وتوازن، ومثلما أنّ الإيقاع الموسيقيّ للآلات الموسيقيّة يعتمد على الأوتار لإصدار نغمة؛ فكذلك الإيقاع الموسيقيّ للألفاظ يعتمد على أوتار الحنجرة لإصدار نغمات تتباين في الشدّة والضعف، والجهر والهمس، والسرعة والبطء وغيرها اعتماداً على الصفات الصوتيّة للحروف، وتتّحد هذه الإيقاعات مع بعضها بواسطة عناصر محدّدة لتشكّل بنية إيقاعيّة متكاملة في اللفظ الواحد والآيات وصولاً إلى السورة، ثمّ القرآن الكريم كاملاً مكوّنة صورة دقيقة ومتناسقة جداً. ينقسم الإيقاع في القرآن الكريم إلى قسمين: أ- الإيقاع الخارجي: ويعتمد على الجانب الصوتي للحروف وتناسبه التامّ مع معاني الكلمات على مستوى المخرج والصفة والحركة: وهي من صفات حروف اللغة العربيّة التي لولاها لما كان للقرآن هذا الإعجاز الصوتيّ، فموسيقى الحروف العربيّة تعتمد على تلك الصفات؛ فلكلّ من حروف الاستعلاء والاستفالة، والصفير والهمس، وغيرها خاصيّة صوتيّة معيّنة تتناسب تناسباً تامّاً مع معاني الآيات، مثل كلمة (يُزجي) التي ترسم بطء حركة السحاب في السماء بما فيها من امتدادات رخية متطاولة لا ترسمها كلمات أخرى مثل: (دفع) أو (ساق)، لأنّها تبدأ وتنتهي بالياء، وهو حرف (لين) والزاي من حروف (الصفير) و(الجهر)، والجيم من حروف (الشدّة) و(الجهر)، وتركيب الجيم بين الزاي والياء، وتوزيع حروف الكلمة من حيث المخارج والصفات، وتنويع حركاتها وتأليفها من مقطعين (يز)، (جي) جعل إيقاعها رخيًا ممتدًّا كرخاوة حركة السحاب وامتداده في السماء. ب- الإيقاع الداخلي: هو إيقاع غير صوتي ونستنتجه عن طريق الفهم الكلّي للسورة كحركة إيقاعيّة، ومقاصد ومفاهيم كوحدة بنائية متكاملة، فسورة العاديات مثلاً مطلعها: (وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا)/(العاديات، الآية: 1-5). نلاحظ سرعة الإيقاع التي تتلاءم مع جوّ السورة ومقاصدها؛ فسرعة الإيقاع تناسب سرعة الخيول العادية مثلما أنّ أوزان الفواصل متناسقة تماماً مع تكرار حرف الحاء فيها لِيناسب حَمْحمات الخيول، والإيقاع السريع في هذا المشهد يُوحي بسرعة العمل في سبيل الله(سبحانه وتعالى) الذي يتناسب تماماً مع الإيقاع السريع لمشهد الإنسان الجَحود الكَنود الشحيح الذي يلهث وراء المال بكلّ ما أوتي من قوّة، ولردعه ذُكِّرَ بيوم القيامة ومشاهده من بعثرة القبور، وتحصيل ما في الصدور. مع ملاحظة القاسم المشترك بين مشهدي الخيول العادية التي تثير الغبار من حولها وبعثرة القبور، واتّجاه الغبار إلى الخارج في كِلا الحالتين؛ ليتناسب الإيقاع المعفّر بالغبار في مطلع السورة مع نهايتها. ونلاحظ بناء الفعلين (بُعثِرَ) و (حُصِّلَ) للمجهول يتلاءم تماماً مع تجويف القبور والصدور بما يحتويه من غموض ومجهول. بعد هذا الإيقاع السريع الوارد في مطلع السورة وجوّها العامّ تأتي الخاتمة بإيقاع هادئ ومستقرّ في قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ)/(العاديات، الآية:11). وبلحاظ ما تقدّم فإنّ الإيقاع الصوتيّ في القرآن تتّحد أجزاؤه الفرديّة بدءاً من الألفاظ إلى السياق العام للسورة وجوّها؛ ليُعطي بنية إيقاعية متكاملة تناسب المعنى مُعطياً هذا الإعجاز الصوتي الرائع في القرآن الكريم. ................................. 1- الإيقاع في السجع العربي، محمود السعدي، ص٥-٦.