رياض الزهراء العدد 154 منكم وإليكم
العَمُّ حِينَ يَكُونُ ظَهِيراً
متى يحتاج المرء إلى ملاذ آمن؟ سؤال لطالما تردّد في مخيّلتي، وأنا أتصفّح حياة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) حين البعثة، فبعد ارتحال جدّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) عبد المطلب آلتْ زعامة قريش إلى عمّه أبي طالب، فكان مُقدّراً أن يكون هذا العمّ هو الظهر القوي والسند المتين لابن أخيه. فما كان أبو طالب ليقصّر في نصرة النبيّ، والذود عنه في أحلك مراحل الدعوة الإسلامية، وما كان ليسلّمه إلى عتاة قريش وطُغاتها ممّن أرادوا طمس دعوته، والاستهزاء به على رؤوس الملأ، فكان نعم الظهير ونعم النصير. إلّا أنّ أعمام النبيّ لم يكونوا كلّهم سواسية، فمنهم الكافر الجاحد كأبي لهب، الذي أذاق النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله وسلم) صنوف العذاب، ونَكّل به أشدّ التنكيل، ولم يكتفِ بذلك لوحده، بل أشرك زوجته (أم جميل) معه في رحلة الإيذاء، لتكون هي كذلك على شاكلته، أفلا يقال: إنّ الطيور على أشكالها تقعُ؟! إلّا أنّ إرادة الله سبحانه أبت أن يبقى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بلا معين، فشاءت إرادته (عز وجل) أن توجد عزاءً لذلك العذاب المتأتّي من عمّه الكافر بنصرة فريدة، بطلها عمّ آخر رحيم ودود، ألا وهو مؤمن آل قريش وكافل النبيّ، وظهيره الذي يستقوي به لمواجهة كَفَرة قريش ورعاعها... فكان أبو طالب. لكن ما أثقلَ فؤاد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وأقضّ مضجعه وهدم ركنه سرعة ارتحال عمّه أبي طالب عن دار الدنيا في عام أسماه النبيّ بعام الحزن*، عام تجمّعت فيه سحب الألم في سماء النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، فأمطرته بوابل آهاتها ولوعاتها وعَبَراتها، حتى غدا بلا ظهير ولا ملاذ ولا جدار إليه يتكئ أو يستجير، فكانت شكواه لربّه الواحد الأحد من دنيا غدّارة، تأخذ الأحباب وتغيّب الأطايب. عام قد مرّ على قلب النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كأصعب ما يكون من أعوام وأثقلها، فيه ضحك سنّ العدوّ وانفرجت أساريره عن خبث ولؤم دفينين، ولطالما شُحنت صدور أعداء الله بغلٍّ ليس له حدود، وهم يرون النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في كنف عمّه قد أحاطه برعايته، ودفع عنه كلّ ما يعكّر أجواء رسالته الفتيّة. وها هو نبيّ الإسلام يعلن حداده بفقده الملاذ الآمن، بوفاة نصيره الأوّل أبي طالب، بنفس راضية بقضاء الله وقدره ليبدأ شوطاً جديداً في مرحلة عصيبة من مراحل الدعوة إلى الله الواحد لتتشكّل حركته فيما بعد إلى نواة آخذة بالاتساع شيئاً فشيئاً، إلّا أنّ غياب العمّ النصير قد ترك نُدبة في حياة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لا تبرأ، وثلمة لا تُسدّ أبداً. ........................... *عام الحزن: هو العام الذي توفي فيه أبو طالب عمّ النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) وزوجته خديجة بنت خويلد(عليها السلام)، في العام العاشر للبعثة، وقبل الهجرة بثلاث سنين.