التَفْكِيرُ الإقْصَائِيّ

د. حوراء حيدر الجابري/ بغداد
عدد المشاهدات : 194

يمثّل ذلك التمركز الشديد حول الذات، والرغبة في إقصاء الآخر، وهو علامة للتأخّر وسِمة من سمات عدم النضج، لأنّ أصحاب هذا التفكير يرونَ العالم والآخرين عن طريق رؤيتهم الخاصّة فقط، ويفتقرون إلى التفكير الاحتمالي، وهو متمركز حول عالَمه، وعالمه موجود في الماضي، وماضيه مطلق منجز مكتمل، ولا يكون الحاضر أو المستقبل بالنسبة إليه سوى نسخ متكرّرة من ذلك الماضي، وإنّه يفتقر إلى حبّ الاستطلاع أو الفضول المعرفي، ويبتعد عن التفكير العلمي، ويميل إلى التفكير الخرافي، ولا يحلّل القضايا المطروحة عن طريق وجهات نظر متعدّدة، بل عن طريق رؤية واحدة جامدة، ولا يحبّ طرح الأسئلة، بل تقديم الإجابات، لا يقول أبداً (ربّما)، بل يقول دائماً (ينبغي)، و(يجب)، و(لابدّ)، و(لاشكّ)، والآخرون بالنسبة إليه أدوات وذرائع، وليسوا أهدافاً، أو غايات، والقضايا التي يطرحها غير قابلة للتكذيب، فهي عنده حقائق خالدة، تنتفخ أوداجه وتنفر عروقه عندما يتحدّث متجهماً، أو متهكماً، وكأنّه ينطق بالحكمة، ولا يخاطب عقول الناس بقدر ما يخاطب عواطفهم وغرائزهم، مغرور ويتظاهر بالتواضع، جاهل ويتظاهر بالعلم، يُطلق على الآخرين الألقاب والصفات السلبية، العالم بالنسبة إليه إمّا أبيض أو أسود، ومَن ليس معه فهو ضدّه، يفكّر عن طريق القوالب الجاهزة والمتاحة في بطون الكتب، وينزعج من كلّ ما هو ناقص أو تخميني، تفكيره دائماً تقاربي وليس تفكيراً تباعدياً، يرحّب بالتنوّع والتغيير والتجدّد، مقلّد أكثر من كونه مجدداً أو مبتكراً، يتلاعب بالكلمات وملامح الوجه ونبرات الصوت وحركات اليدين، وكلامه أقرب إلى الصياح، ومن الأمثلة على ذلك (المعلّم) فالمفترض فيه أن يتّسم بالموضوعية في تناول القضايا، غير أنّ البعض يفرض وصايته، ويُلزم طلبته بقناعته، ويُنصِّب نفسه قاضياً لا معقّب لحكمه، ولا علم فوق علمه، حتى أنّه يفرض حصاراً فكرياً على طلبته، إنّ هذا النوع من التفكير الإقصائي يحمل بذور الصراع، مثلما يحمل بين جنبيه عوامل التناقض والفناء، إذ هو فكر يهدم أكثر ممّا يبني، ويفرّق أكثر ممّا يوحّد، ويشتّت أكثر ممّا يجمع، وخطورة هذا التفكير تتجلّى في كونه يأخذ طابعاً دينياً وعقائدياً. ووجد العالم (بياجيه) أنّ السِمة الغالبة على تفكير الأطفال خلال مرحلة ما قبل المدرسة هو التمركز حول الذات (أي التفكير الإقصائي)، فهو يرى العالم من وجهة نظره فقط، بل إنّه يعتقد أنّ الآخرين يشاركونه الرؤية نفسها، ولا يتحرّر من هذا التمركز حول الذات إلّا بعد أن يزداد تفاعله مع الآخرين، وبعد أن يندرج في نظام تعليمي يؤكد على مهارات التفكير الناقد والإبداعي، وكذلك القدرة على حلّ المشكلات، واتخاذ القرارات، وثقافة التسامح والمواطنة.